أحاديث.. في انتظار القمة

TT

كتبت وكتب الكثيرون عن القمة العربية القادمة في دمشق وما يحيط بانعقادها وفرص إمكان نجاحها في إنجاز خطوات ولو متواضعة نحو تحسين الأجواء وصولاً إلى تحسين الأوضاع العربية التي وصلت الى مرحلة اختلط فيها الشك باليأس. وناقشت هذه الموضوعات مع كثير من الشخصيات المصرية والعربية فاستمعت إلى آمال لا تكاد تسندها حقائق أو وقائع، وإلى شكوك لمن بدا لهم أن تناقضات ـ مهما كانت أهميتها فهي فرعية ولكنها تكاد تطغى على الأهم وهو أن الأخطار أو النيران المشتعلة في بقعة ما من بقاعنا مرشح لهيبها لكي يمتد إلى غيرها، بخاصة أن بعضنا ينظر نظرة قطرية، هي ضرورية في بعض الأحوال وإن كانت المبالغة فيها تتناقض مع نظرة الآخرين لنا الذين يستغلون خلافاتنا وتناقضاتنا لأغراض وأهداف تتكشف حقيقتها كل يوم حتى لمن لا يريدون أن يستسلموا لنظرية المؤامرة المستمرة، وهي موجودة بالقطع ولكننا قادرون على أن نواجهها إذا لم نلتفت عنها إلى أمور هي في النهاية ثانوية تقدم ما قد يكون بالفعل مهماً على ما هو بالقطع أهم.

وكتبت وكتب كثيرون عن إفلاس السياسات الأمريكية، ونتائجها في العراق مثلاً حيث ادعوا أن زيادة القوات قد أدت الى استتباب نوع من الأمن والهدوء، فإذا الأحداث في الأيام الأخيرة تحمل معها مزيداً من الضحايا الأمريكيين في مناطق كانت قوات الاحتلال تدعي أنها قد استطاعت أن تخمد فيها جذوة المقاومة الموجودة لوجودها. وإذا العراقيون يزدادون انقساماً، وإذا بهم يتعرضون لهجمات تركية تستبيح أرضهم نتيجة لأن انقساماتهم التي عززها الوجود والسياسة الأمريكيان قد أوردتهم موارد الاستضعاف. وإذا بالسياسات الأمريكية الخرقاء والمخططات تؤدي الى استقالة جنرال أمريكي كبير معترفاً بوجود خلافات هامة بينه وبين الإدارة الأمريكية لم يفصح عن كنهها، وإن كان من السهل إدراك أنها تتعلق بمخططات تتعلق بمزيد من المغامرات في المنطقة. كل هذا بالإضافة إلى الأوضاع الاقتصادية المتردية نسبياً في الولايات المتحدة حيث بددت السياسات رصيداً إيجابياً في الميزانية ورثته الإدارة الحالية عن الإدارة السابقة. وتكشف الحملة الانتخابية الرئاسية وما يتخللها من رفع الغطاء عن الكثير مما كان خفياً أو مستتراً عن درجات من الانهيار الفكري والأخلاقي ما كان يصدق لو كشف عنه أعدى أعداء أمريكا. وهذا على أية حال من مزايا انفتاح يتيح التنوع، ويتيح الكشف عن المستور الذي حتى إذا شابته مبالغات أو تجاوزات فإنها في النهاية تصل الى درجة من التوزان النسبي الذي هو في صالح إتاحة الفرصة لاختيار قد تلحق به شوائب ولكنه يعبر عن تيار غالب في لحظة من لحظات التطور السياسي المستمر.

وكتبت وكتب كثيرون عن الأوضاع الفلسطينية المتردية ليس فقط بقدر تزايد العدوان والإجرام الاسرائيلي، ولكن بقدر الانقسامات البغيضة بين أطراف فلسطينية لا تبدو قادرة على حوار جاد يقدم مصالح الوطن الذي ما زال يسعى للخروج إلى الوجود، على مصالح ضيقة تتيح الفرصة لمحاولات الدس والوقيعة فتتوه الأمور في متاهات مفاوضات وهمية ثنائية أو ثلاثية.

كتبت عن ذلك كله، ورغم أنني ما زلت أرى أن تلك الموضوعات وغيرها قادرة على أن تستجيب لصفحات وصفحات، فإني أشعر بالرغبة في أن أتعرض لبعض الأمور الأخرى التي تستحق في تقديري أن أتناولها.

على سبيل المثال، فإني أفهم أن يغضب المسلمون لإهانة دينهم ونبيهم وكتابهم المقدس، حتى إذا جرى ذلك في مجتمعات لم تعد ترى حدوداً لما تعتبره حقها في المساس بكل المقدسات دينية أو آيديولوجية أو فكرية، وترى في ذلك كله انفتاحاً على آفاق جديدة من الحرية دون أن تدرك ما قد يدفعها إليه ذلك من مسالك وعرة مليئة بالأشواك تتوه فيها الأقدام.

أقول إن من حق المسلمين أن يغضبوا، كما أنه من حق المسيحيين أن يغضبوا عندما يتعرض دينهم أيضاً لما يتعرض له المسلمون، من جانب بعض المتعصبين الذين يعلو صوتهم على عقلهم. ولو إني كنت أفضل أن يغضب المسلمون أيضاً لما يتعرض له المسيحيون من بعض الأقلام التي تدعي الانتماء الى الإسلام، وأن يغضب المسيحيون أيضاً من بعض الأبواق التي تتعرض للإسلام والمسلمين بأسلوب يستهدف في الحالتين تفكيك نسيج أوطان عرفت التعايش الذي يقوم على الاحترام المتبادل وقبول الآخر كأخ وشريك. ولعلي قد ابتعدت قليلاً عما كنت أريد أن أقوله منذ البداية ولذلك أعود اليه. قلت إن من حق المسلمين أن يغضبوا، ولكن هذا الغضب يجب أن يوجه أولاً الى أنفسهم، فإني لا أعرف أن أحداً يسيء الى الدين والى القرآن والى الرسول إلا بعض المسلمين الذين يكتفون بالمظهر، متغافلين عن أفعال يرتكبونها وتصرفات يأتونها تتناقض مع جوهر ما يدعون أنهم يؤمنون به، فيعطون بذلك مادة لمن يخلطون ـ متعمدين أو جاهلين ـ بين الإسلام والمسلمين، ولعل الشيخ محمد عبده هو صاحب الكلمة الشهيرة حول أنه وجد أحيانا إسلاماً بلا مسلمين، وأحياناً أخرى التقى مسلمين بغير إسلام. وأنا لا أدعي أنني خبير بهذه الأمور أو متفقه فيها، ولكني لا أستطيع إلا أن ألاحظ أن الكثير مما يهاجم الإسلام به، يرجع إلى أقوال وأفعال ومواقف وتصرفات بعض المسلمين يعطون الفرصة لمن يتربصون بدينهم أو حتى لمن قد يتربصون بدينهم أو حتى لمن قد يحسنون النوايا ولكنهم يفاجأون بما يعطيهم صورة سلبية وغير حقيقية عن الإسلام.

وخلاصة ما أريد قوله في هذا المجال، إن على المسلمين أن يعكسوا الصورة الحقيقية لدينهم في مظهره وفي جوهره حتى يخرسوا كل الأفواه التي تستغل تناقضاتهم ويوضحوا الحقيقة ليس بأصوات صارخة زاعقة، ولكن بضرب المثل في التدين الحقيقي الذي هو مخبر قبل أن يكون مظهراً غالباً ما يكون مظهراً ما انزل الله به من سلطان. وعلينا قبل ان نلوم غيرنا أن ننظر إلى ما بنا من علل نبرأ منها فنحسن أحوالنا «ويحتار عدونا فينا» على رأي المثل.

هذا كلام ليس من خبير، فلست خبيراً ولا متفقهاً، ولكني أشعر بالأسى حين أرى أننا نميل إلى لوم غيرنا قبل أن ندرك أن العيب فينا وأن الغير يستغل تلك العيوب.

موضوع آخر أود أن أتحدث فيه ولعلي قد تناولته من قبل ولكني أشعر بأنه يتحمل المزيد من الحديث. فقد دهشت لما أصاب بعضنا من غضب عندما تعرض لنا البعض بالنقد، ولعلنا بالغنا في رد الفعل بينما نحن لا نمسك عن نقد الآخرين عندما نرى في تصرفاتهم ما يجافي في تقديرنا بعض المبادئ الأساسية في العلاقات الدولية، أو في التعامل بين الناس أو معهم خاصة في مجالات تخص حقوق الإنسان وقد أصبح هذا أمراً مقبولاً في عالم تنتقل فيه الأخبار صوراً وكتابة بسرعة فائقة لا يعوقها أي شيء. وإزاء ذلك فإن من يتعرض لهجوم أو اتهام يملك حق الرد الفوري الذي يستند الى إيضاح الحقائق دون غضب أو تهديد أو مقاطعة بل بمواجهة صريحة تستند الى حجج حقيقية ومقنعة. ولست أشك في أن سجلنا في تلك المجالات فيه إيجابيات كثيرة وقد سبق أن أشدت باتساع مساحة التعبير عن الرأي حتى عندما يشوبه شطط من المعارضين أو المؤيدين، أو محاولات للتضييق غير مبررة ولا فاعلة. كما أشدت مثلاً بتقارير المجلس القومي لحقوق الإنسان وبحالات كثيرة من التجاوب معها.

وخلاصة القول إن الغضب والمقاطعة ليسا الأسلوب المناسب لرد الكيد إذا كان كيداً، أو لإيضاح الحقائق إذا حسنت النوايا. وإنه ليس من المنطق أن أسمح لنفسي بحق ـ وهو حق مؤكد ـ نقد الآخرين بينما لا أقبل من غيري أن يعاملني بالمثل، خاصة عندما يكون لدي الرد المنطقي. ولذلك رحبت بالأسلوب الذي اتبعه الوفد البرلماني المصري الذي زار الولايات المتحدة وأجرى حوارات ومناقشات لا أشك في أنها ساهمت في إجلاء الحقائق فكانت أكثر نفعاً من الغضب الصاخب أو من المقاطعة التي سرعان ما تنسى.