حوار المسلمين والمسيحيين!

TT

دخلت قاعة اللقاء الإقليمي، الذي دعا إليه الفريق العربي للحوار الإسلامي- المسيحي (28 شباط 2008) ببيروت من دون سابق معرفة بالمشاركين، لذا وجدت ثياب زعماء الملل والنحل طريقة للتعرف عليهم، فهذا يعتمر العمامة بلونيها: الأسود والأبيض، وذاك يعتمر القلنسوة، ويغطي رأسه بما يشبه العباءة السوداء، حاملا عصا القداسة، وكأنه خرج تواً من فجر المسيحية بفلسطين، وآخر اعتمر الطربوش وتسربل بالقفطان الأسود، وهو من شيوخ وقضاة الطائفة الدرزية.

افتتح المؤتمر الكاثوليكوس آرام الأول، والشيخ عبد الأمير قبلان، والقاضي عباس الحلي، بعد كلمة رئيس فريق الحوار القس رياض جرجور، وهم من زعامات الأديان والمذاهب اللبنانية: مسيحي، شيعي، سُنُّي. بحث المؤتمر أحوال الحوار بين الديانتين بلبنان، وفلسطين، والعراق، والسودان، ومصر، والأردن. كل تحدث عن بلاده بالإيجاب والحذر، على مستويي الرعاة والرعية.

ولنا تقدير حجم المجاملة التي يلجأ إليها المتحدثون عادة في مثل تلك العناوين، وكثرة الاستشهادات بالنصوص، من دون النزول إلى واقع الحال، والكشف عن الضغوط التي يتعرض لها أهل هذا الدين أو ذاك المذهب وسط تعصب مريع. وكان أحد الحضور محقاً عندما علق على تلك المجاملات البروتوكولية، بالقول: «وما فائدة ما يُقال بين النخب من دون الناس»؟! وأقول: ما هي الآلية التي ينزل بها هذا الحوار إلى الشارع ومحلات السكن؟! وآخرون أقلقهم استخدام مصطلحي الأكثرية والأقلية. وشيخ درزي نبه من اقتصار أهل ملة الإسلام على سُنَّة وشيعة، ومن دون حساب أتباع الشيخ عقل!

ولعلها أول مرة تُقدم ورقة حول أحوال المسيحيين بدول الخليج، وقد طرقت الوضع العراقي، في الهامش لا في أصل المداخلة، فالبلاد لا تعد من تلك الدول، وإن كانت زاوية الخليج بابها البحري الوحيد! بل أكثر الكلمات لمحت إلى الوضع العراقي كنموذج لما آلت إليه أحوال المسيحيين هناك. وأرى انه لا يتعلق الأمر بفشل التعايش بين مسلمي العراق ومسيحييه لسبب ديني، وهو ما عبر عنه الشاعر عند تكريم الأب الكرملي (ت 1947) قبل وفاته بعشرين عاماً: «وعشنا وعاشت في القديم بلادنا.. جوامعنا في جنبهنَ الكنائس.. وسوف يعيش الشعب في وحدة له.. عمائمنا في جنبهنَ القلانس»(مجلة لغة العرب). بقدر ما يعود إلى سبب الفوضى، وحالة اللادولة، وهيمنة الدين السياسي.

كنت في كلمتي حول الحوار المسلم المسيحي العراقي وسطاً أو (متشائلا)، على حد عبارة الأديب الحبيبي، بين السيد هاني فحص، الذي ينتمي إلى العراق حسب اعترافه بعرق من العروق، والمطران ميشال قصارجي. فالأول، بعد رحلة عراقية ولقاء براضين وغاضبين توصل إلى عنونة كلمته: «المسميات بأسمائها في العراق». إلى جانب ذلك ملأ المطران القاعة تشاؤماً منطلقاً مما يحدث لأبناء دينه، من دون إغفال ما عمَّ الجميع، سابقاً ولاحقاً، من درجات الضيم. لم أجد في وسطيتي بين السيد والمطران سوى الماضي مَسنداً، لذا استهللت كلمتي بعبارة: «أنا متفائل بالماضي»! وكثيراً ما ألاقي التبرم، كوني أكثرت من الاستئناس بخوالي الأيام لا بقوادمها! لامست في كلمتي نماذج شتى من مدعمات الحوار. كان الحوار ببغداد قائماً بين خليفة المسلمين المهدي (ت 169هـ) وبين جاثليق المسيحيين طيمثاوس الكبير حول الثالوث المقدس. الخليفة يسأل والجاثليق يجيب بكل سعة. حتى عرجت على إهمال الناصر لدين الله (ت 622هـ) لرسالة رئيس الجوالي المتشدد محمد بن فضلان (ت 631هـ) الداعي إلى التضييق على الأديان الأخرى، ثم تلاقي المواكب في أعياد الميلاد (1920) بين المسلمين والمسيحيين، وما شجبت به مرجعية النجف، والكاظمية، وهيئة علماء المسلمين ما وقع من أذى على مواطنيهم من أتباع عيسى بن مريم.

أرى في وجود مثل هذا الحوار إصراراً على تسهيل الصعاب، وكبح جماح فتاوى الإقصاء، والإخلال بجيرة وعِشرة عبر دهور تقاسموا فيها اليسر والعسر. عُقد المؤتمر، وهو المؤَسس منذ 1995، والمنطقة تشهد نزوحاً مسيحياً إلى البلدان ذات القوانين المدنية حيث أداء الطقوس بلا قيود، والشعور بالمساواة على مستوى الدولة والناس من غير فضل ومكرمة فما شُحنت به الكتب الفقهية في مسائل معاملات الأديان الأخرى، وما يبثه الإسلام السياسي، غرس في الأذهان ما تحول تدريجياً إلى حواجز، ومنها ما يتعلق بالمعاملة اليومية، ومعلوم أن المعايشة، أو المعاشرة على مدى أزمنة طويلة بحاجة إلى تساهل ومسامحة.

أقول: على الرغم من تشنج مَنْ جاء من أُصول سياسية دينية، أو ولد على عتبتها، إلا أن المؤتمر نجح من تكريس فكرة حق الجميع بالمجاورة على هذه الأرض بدرجة واحدة من المساواة.