الأغنية السياسية

TT

أتخيل أن شعبان عبد الرحيم حينما يعود إلى بيته في المساء بقميصه الفاقع الألوان، وجيبه المتخم بالجنيهات، ينظر إلى نفسه في المرآة وهو (يتنطط) كالأطفال مرددا:

ـ وضحكت عليهم.. (إيييييييه)!..

فشعبان عبد الرحيم ليس (عبيطا) حتى وإن تصنع (العبط)، فهو رجل ذكي استطاع أن يغسل وينشر الأغنية العربية، ويزيل البقع الغرامية الداكنة التي علقت بها، وجعلتها لا تخرج في أغراضها عن قضية اثنين أحدهما «ساديا» والآخر «ماسوشي»، فيستعطف الثاني الأول في تذلل وخضوع لكي يرق، فكل أو جل موضوعات أغنياتنا العربية (خصام وفراق ولقاء) حتى جاء هذا (المكوجي) البسيط الذي أتعبه (البخ) والغسل والكي ليحول مسارها من الحب والغرام والهيام إلى التعبير العفوي التلقائي، مقحما نصوصها في لهب السياسة، ليجعلها تتحدث عن محمد الدرة، وواقعنا العربي، وعمرو موسى، وغيرها من قضايانا المعاصرة، واستحق بذلك أن تتحدث عنه صحف ومجلات عالمية كبرى مثل الـ«نيوزويك» وقنوات شهيرة كالـ(سي.إن.إن)، وأن تقلق إسرائيل من تأثيره الشعبي في تعميق الكراهية ضدها.

وأخال شعبان يستثمر بذكاء أحكام الناس المختلفة حوله، حتى ليبدو وكأنه يعيش خارج الزوبعة التي تثيرها أغنياته، وإن كنت أظن أنه أكثر دهاء مما يتصوره البعض، فلقد نجح بصوته الأجش، ولحنه الواحد المتكرر أن يحتل مساحة كبيرة من الضجيج لم ينلها قبله فنانون شعبيون أكثر تميزا وحضورا وموهبة كالفنان محمد رشدي أو أحمد عدوية..

التقيت به مرة في أحد مقاهي القاهرة على فنجان من القهوة، وحينما علم أنني من الذين أدركتهم حرفة الصحافة، ارتجل فورا تعديلا لمطلع أغنيته الشهيرة وهو يقرع طاولة المقهى بأصابعه مرددا:

ـ «بحب عمرو موسى، وبكره إسرائيل، وأتحاشى الصحفيين».

فقلت له: هل تتحاشى الصحافيين حقا؟

فارتسمت ابتسامة ماكرة على وجهه، وهو يقول:

ـ «أصل بعضهم زي حضرتك لا مؤاخذة بيقولوا كلام ما بفهموش، وبيكتبوا على لساني كلام ما قلتهوش».

وسألته عن سر الساعات الثلاث التي أثقل بها معصمه، فقال:

ـ «أصل الوقت اللي ضاع من عمري طويل أوي واللي جاي لازم أحرص عليه».

وقبل أن يغادر، وقد دلق فنجان القهوة ساخنا في جوفه دفعة واحدة نظر من جديد إلى ساعاته الثلاث مليا، ولم ينس أن يسألني ضاحكا:

ـ الساعة معاك دي الوقت كام؟!

[email protected]