عن الفضائيات والمذاهب

TT

لا يمكن للمرء أن لا تتنازعه الحيرة إزاء الإعلام العربي.

هناك فوضى!! تطرف!! شعبوية!! إسفاف!!

حتماً.. بل وأكثر.

لكن الإقرار بذلك يعلنه واحدنا بصوت خافت بعض الشيء ومشوب بكثير من الحذر والتردد، كي لا يتحول هذا الإقرار إلى حجة رادعة في ظل ميل الحكومات لفرض مزيد من الخناق على الحريات العامة التي تفتقدها المجتمعات العربية بالأساس.

أتت الفضائيات لتكون متنفساً، وكان طبيعياً أن يعكس هذا المتنفس حال التخبط الذي تعيشه منطقتنا. وما الوثيقة المثيرة للجدل التي توصل إليها وزراء الإعلام العرب مؤخراً والتي سميت بـ «وثيقة شرف حول القنوات الفضائية العربية» سوى مؤشر على حجم الرهاب الذي أوجده الفضاء المفتوح على مصراعيه لكل من الأنظمة والمجتمعات العربية على حد سواء..

يهجس كثيرون اليوم مثلا بقضية تنامي الفضائيات «الشيعية»، خصوصاً في مرحلة ما بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق. فعلى غرار العبارات المتداولة بين بعض السياسيين في إطار السجالات الدائرة، تستحضر لغة ضيقة وتعابير فئوية من نوع «هجمة فارسية» واختراق لنظرية «ولاية الفقيه» في الفضاء العربي كتوصيف لما يسمى بحالة الفضائيات الشيعية التي تتركز في العراق وإيران والبحرين ولبنان والكويت. إنه الماضي بكل أثقاله يتم اسقاطه لتختصر الأزمة ولشحذ الهمم لاستكمال ما يريد البعض أن يصوره على أنه استمرار للصراع التاريخي بين العرب والفرس أو بين السنة والشيعة.

لا شك أن الأقليات الدينية والعرقية عانت عموماً في المنطقة العربية حالة من الإقصاء المزمن سياسياً واجتماعياً حتى بات يشك في وجودها أصلاً في المنطقة. وأتت طفرة القنوات الفضائية لتشكل مظهراً جديداً من مظاهر التردي هذا. فالفضائيات الشيعية وقبلها السنية وعلى هامشها الكردية والكلدانية وغيرها.. كلها خلقت سباقاً محموماً ليس للسيطرة ولكن للتعبير عن الهوية وعن الانتماء ولكن بأكثر مظاهره تقوقعا.. إغراق الفضاء العربي في مستنقعات الفتاوى سواء أكانت سنية أم شيعية وسط الاستقطاب السياسي الحاصل حول إيران والعراق ولبنان وفلسطين هو دفع مطرد نحو صدامات فعلية وحواجز أهلية بين المجتمعات العربية وعلى نحو بالغ الخطورة.

فالفضائية تعريفاً هي محاولة توسيع ضفاف الهوية الوطنية ومحاولة اتصال بعالم أبعد. أما الفضائية الإثنية أو القومية أو الطائفية فهي على عكس ذلك إصرار على تثبيت القيود حول الأصول والمعتقدات. وهنا مرة أخرى تستخدم التقنيات الحديثة لدفعنا إلى الماضي وإلى قيوده وانقساماته. والارتداد إلى تعريفات من نوع «فرس» و«كرد» و«شيعة» و«سنة» هي محاولة لتضييق هوياتنا في زمن لم يعد فيه مكان للهويات الصغرى. فالعالم اليوم يبدو أقرب من قبل بفضل الفضاء والتواصل، لكننا حين نرتد إلى مجموعات صغيرة تعبر عن هوياتها ومعتقداتها نعود وننكفئ إلى دواخلنا بعد أن كنا اعتقدنا أننا بتنا جزءاً من الفضاء الأوسع.

diana@ asharqalawsat.com