مساءلات حول طلب حظر «العدالة» التركي

TT

مرة أخرى يحل عصر الجمعة ومرة جديدة تقترب عقارب الساعة من الخامسة لنسمع ما يقلق ويخيف. مبنى المحكمة الدستورية التركية كان على الموعد هذه المرة حيث دخله المدعي العام التمييزي عبد الرحمن يلشن قايا مفاجئا الجميع وهو يقدم مذكرته بطلب حظر حزب العدالة والتنمية الحاكم ومنع أكثر من 70 قياديا وشخصية تعمل تحت غطاء هذا الحزب من ممارسة النشاط السياسي بتهمة استهداف النظام العلماني التركي ومحاولة قلبه.

لماذا هذا التوقيت؟ أقصد مساء الجمعة، لأن البورصة والمؤسسات المالية والتجارية مقبلة على عطلة نهاية الأسبوع والهدف هو منع حصول خضات مالية وتدهور في البورصة وإعطاء الجميع فرصة يومين لهضم النبأ والاستفاقة من الصدمة وبالتالي امتصاص الغضبة السياسية والشعبية العارمة التي أظهرت ردود الفعل الأولى أنها لن تمر بسهولة هذه المرة. ولماذا هذا التوقيت؟ والمقصود هنا طلب إغلاق حزب العدالة الذي يمسك بأهم مراكز السلطة في البلاد بعد انتخابات تشريعية قبل 6 أشهر فقط جعلته يتفرد في السلطة بنسبة 47 في المائة من أصوات الناخبين مما يعني هيمنته الكاملة على القرار السياسي في فترة حكم ثانية. فالجواب هو تصاعد موجة السجالات والنقاشات الحادة بين قيادات العدالة والعلمانيين المتشددين في البلاد حول سلوك وتصرفات وقرارات الحزب الحاكم. والمكتوب يقرأ من عنوانه ـ كما يقولون ـ فتركيا مقبلة على أزمة سياسية داخلية جديدة مركز الثقل فيها هضم وقبول ممارسات حزب يصر على أنه مسلم، لكنه لا يريد أن يوصف بالاسلامي وشرع في إطلاق حملة من التغييرات والتعديلات الدستورية والاجتماعية والسياسية أفزعت بعضهم.

المشهد السياسي الذي تعكسه آخر صور المشهد التي تلتقطها عدسات المراقبين تلتقي في غالبيتها عند تصور أن المواجهة ستكون حاسمة هذه المرة بين نهجين وطرحين جنبا خيار المنازلة أكثر من مرة، لكن ساعة الحقيقة دقت هنا لتكون حربا مفتوحة تحت غطاء إنقاذ البلاد من محاولة دفن حزب جديد في مقبرة الأحزاب السياسية التركية، بعدما وصل العدد الى 24 حزبا خلال نصف قرن تقريبا؛ وكل ذلك بقرار من المحكمة الدستورية التي حاول حزب العدالة إبطاء حركتها بهذا الاتجاه عبر جملة من التعديلات القانونية التي زادت من صعوبات إعطاء مثل هذا القرار.

المؤكد أن المدعي العام قايا كان يتابع حزب رجب طيب أردوغان خطوة بخطوة في كل قراراته وتدابيره خصوصا الجوانب المتعلق منها بمسار الحياة السياسية والاجتماعية، وهو نجح كما تشير المعلومات في توضيب 17 ملفا كاملا حول هذه المسائل التي تطول وتهدد شكل النظام وتستهدف بنيته التحتية، كما قال في خطاب الادعاء الذي تقدم به الى المحكمة، وعرف منها حتى الآن قانون السماح بارتداء الحجاب في الجامعات الذي اعترض عليه حزب الشعب الجمهوري وهو اليوم أمام المحكمة الدستورية لتعطي رأيها النهائي حوله.

وهناك أيضا قرارات مجلس التعليم العالي بهذا الشأن، ونظرة العدالة وتعامله مع مسائل مدارس أئمة الخطباء، وبعض الجماعات الاسلامية تتقدمها حركة النور ومدارسها المنتشرة في الكثير من بلدان العالم، وأخيرا سلوك وتصرفات بعض الحزبيين ونزع ومنع بعض صور ملابس البحر النسائية في العديد من الأماكن العامة خصوصا قاعات مطار اسطنبول الدولي.

العدالة يقف اليوم على مسافة واحدة من حزب المجتمع الديمقراطي بقواعده من الغالبية الكردية الذي انتقد بشدة طلب الحظر باسم الديمقراطية وحقوق الانسان وحرية الفكر، مذكرا أنه هو الآخر يحاكم منذ أشهر للغاية نفسها في بلد يحاول أن يدافع عن حداثته وانفتاحه على الغرب وعلى الاتحاد الأوروبي.

حزب الشعب الجمهوري العلماني الذي أسسه أتاتورك أعلن أنه سبق له أن حذر القيادات في حزب العدالة أكثر من مرة من ضرورة التنبه الى قراراتهم وتصرفاتهم، داعيا لترك الأمور كي تأخذ مجراها القانوني وعدم الدخول في أية مغامرة تهدف الى التصعيد وتوتير الأجواء أكثر مما هي متوترة أصلا بسبب مشروع قرار الحكومة حول الاصلاحات في قانون نظام التقاعد والذي دفع الاتحادات العمالية والنقابات الى الشوارع في تظاهرات معارضة وتنديد صاخب.

زلزال سياسي آخر ينتظر الداخل التركي وامتحان جديد للقيادات السياسية التي تراقبها المؤسسة العسكرية عن قرب رغم خيارها عدم الدخول في نقاشات جديدة مع أحد، وهي التي لم تخرج بعد من سجال مع أحزاب المعارضة التي انتقدت قرار الانسحاب والعودة المبكرة من شمال العراق وأزعجها حجم التنسيق بين الحكومة والقيادات العسكرية.

بقي أن نقول إن رئيس الجمهورية الحالي عبد الله غل ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان ورئيس مجلس النواب الاسبق بولند ارينش هم في طليعة الأشخاص المطالب بمنعهم من ممارسة العمل السياسي، وان هذه الشخصيات سبق لها أن عانت الكثير من المضايقات والأحكام من هذا النوع، لكنها خرجت من كل مواجهة أقوى مما كانت عليه في السابق، حيث دربها نجم الدين أربكان على الصبر والمثابرة، وها هو من خلال حزبه السعادة ينتقد قرار الحظر الذي سيجعل خصمه الحالي حزب العدالة أقوى مما هو عليه ويبقيه في الحكم لسنوات طويلة.

حماوة الطقس السياسي في تركيا توحي بأن المنازلة في بدايتها واننا نحتاج الى أشهر من الانتظار حتى تتوضح الصورة ونستمع الى قرار المحكمة الدستورية النهائي؛ وهي المحكمة التي عين الرئيس الأسبق أحمد نجدت سزر معظم حكامها.