احتضار ..

TT

عندما حل رئيس مجلس إدارة البنك المركزي الفيدرالي الأسبق بالولايات المتحدة الأمريكية، آلن جرينسبان، ضيفا أساسيا على منتدى جدة الاقتصادي أخيرا، كانت كلمته أهم حدث في تلك الفعالية بدون شك، فلقد شهدت حضورا هائلا وإنصاتا جادا لما قاله. ولعل أبرز ما ذكره جرينسبان هو أن على دول المنطقة عموما ودول الخليج فيها تحديدا استغلال هذا الظرف التاريخي والاستثنائي الذي تمر فيه اقتصادياتها نتاج الطفرة النفطية الحالية، وما وضحه جرينسبان بمفهوم الاستغلال هو أن لا تنقل دول الخليج «علل» و«أمراض» الاقتصاد الأمريكي الحالية الى اقتصادياتها، فالأوضاع مختلفة تماما. وأوضح جرينسان أن ربط معظم العملات الخليجية بالدولار الأمريكي فيه مغالطة للواقع. فالاقتصاد الأمريكي والسياسة المالية فيه تسعى لتخفيض قيمة الدولار مع العملات الأخرى كهدف استراتيجي حتى تنتعش الصادرات الأمريكية وتقلل بالتالي من العجز المهول في ميزان المدفوعات التجارية، بينما دول الخليج تسعى للإبقاء على الدولار قويا(وبالتالي عملاتها) نظرا لأن تسعيرة النفط هي بالدولار، وهي المدخول الاقتصادي الأول لها. ولم يذكر جرينسبان ربط الدولار بالعملات الخليجية كعنصر وحيد، ولكن حتى معدلات وأسعار الفائدة وتأثرها بما يأتي من السوق الأمريكية المضطربة. الاقتصاد الأمريكي يمر بأدق مرحلة من مراحله، وهناك الكثير من الاقتصاديين والمحللين الماليين يشبهون ما يحدث الآن بأنه قريب لانهيار العشرينات الميلادية من القرن الفائت، ويعتبرون أضرار الأزمة الحالية تجاوزت بمراحل انهيار عام 1987 المعروف بالاثنين الأسود. مصارف عملاقة تنهار وتعرض للبيع بأبخس الأثمان كان آخرها مصرف بيرستيرنز الشهير الذي بيع بـ270 مليون دولار مقابل دولارين للسهم، بينما كانت قيمته السوقية منذ أيام 170 دولارا للسهم. الحكومة الأمريكية تتدخل سياسيا، والبنك المركزي فيها يغرق الأسواق حاليا ببلايين الدولارات، محاولا إيقاف ما يمكن إيقافه وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولكنه تباع ونتاج السياسية الاقتصادية المدمرة التي يسير عليها جورج بوش، والبلايين من الدولارات التي تستنزفها الحرب الخاطئة على العراق، كان لا بد أن تؤدي الى الوضع الحالي، مع وجوب الاعتقاد بأن ما يحدث حتى هذه اللحظة ما هو إلا قمة الجبل المنغمر تحت الماء، وأن الآتي مؤلم ومذهل أكثر. الدولار الأمريكي لم يعد العملة الأكثر جاذبية، وهناك هروب استثماري جماعي صوب اليورو والين والجنيه الاسترليني، ولم تعد المصارف الأمريكية العملاقة مثالا للشركات والهيئات المضادة للكسر، هناك واقع اقتصادي عالمي جديد، وهو أن الشركات التي تحيا خارج الحدود هي التي ستكون قادرة على التكيف، وأن الاقتصاديات التي تعتمد على الارتباط بمنظومة مرجعية واحدة وعلى كيان واحد مبني على نظريات قديمة تغير وقتها لن يكون لها النجاح أبدا. هناك إدراك حقيقي في أمريكا بأن الضرر الذي أصاب اقتصادها في حقبة جورج بوش الحالي ضرر خطير. فالعجز في الموازنة بلغ مستويات يصعب نظريا إمكانية ردمها والتغلب عليها، والعجز في ميزان المدفوعات التجاري آخذ في الاتساع بشكل ثابت ومنتظم، والعملة الأمريكية مستمرة في الهبوط بشكل متواصل وذلك لسنوات، ولكن هناك مؤشرا بالغ الأهمية لا يأخذ التغطية الإعلامية الكافية وهو انحسار شديد في حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة بأمريكا، وذلك نتاج مناخ منفر ولدته إجراءات بالغة التعقيد لم تعهدها أمريكا من قبل وهي التي عرفت بأبسط وأسلس الإجراءات. والطرفة تقول إن أمريكا نجحت في «أمركة» بعض القطاعات في الحكومية العراقية بعد غزوها، ولكن نتاج الأوضاع الجديدة حدث تحول في بعض القطاعات الحكومية بأمريكا نفسها وتمت «بعثنتها» وذلك من كثرة التعقيدات ومن كثرة التشكيات فيها. الوضع الاقتصادي الحالي في أمريكا ليس بمزاح عابر أو طرفة ساخرة، وهو وضع بحاجة لمراجعة كل من له ارتباط مع هذا الاقتصاد، فالنكتة كانت تقول «إذا عطست أمريكا أصيب العالم بالزكام..»، ولكن ما لم يوضحه هذا القول هو ماذا لو أصيبت أمريكا بالزكام وكيف سيكون وضع الاقتصاد في العالم؟… نصيحة.. حضروا المناديل!

[email protected]