عجائب وغرائب

TT

اولا: يدهشني احيانا كيف استطاعت اسرائيل ومعها الولايات المتحدة ان تدخل الى اللغة التي يستعملها البعض منا احيانا بتعبيرات معينة ملغمة، فعندما تقوم اسرائيل مثلا بعدوان غاشم يصيب الاخضر واليابس ويقتل الاطفال والنساء والرجال نسمع تعبير «القوة المفرطة»، كأن اسرائيل من حقها ان ترد على المقاومة الشرعية والمشروعة لاحتلالها غير القانوني ولا الشرعي واغتصابها الاراضي، باستخدام القوة ولكنها احيانا تبالغ فيها فتستحق كلمة من العتاب الرقيق، ونقرأ أو نسمع بعضاً منا يوجهون لوما ولكنه كثيرا ما ينصب على الافراط وليس على الفعل نفسه. وعندما تفرض اسرائيل حصارا على قطاع غزة يستهدف التجويع وفرض الشلل ردا على عمليات مقاومة ايضا، فان الحديث يتواتر عن التهدئة المتبادلة دون تفرقة بين العدوان الذي يتمثل في الاحتلال وممارساته، وبين محاولة انهاء العدوان والاحتلال واسترداد حقوق مسلوبة. ومن العجائب ايضا ان تتحدث اسرائيل وتساندها الولايات المتحدة عن مفاوضات فلسطينية ـ اسرائيلية تتزامن مع الاستمرار في بناء مستعمرات والاعلان بكل بجاحة انها تبنيها وتتوسع فيها على اراض لا تنوي ارجاعها لأصحابها رغم القانون والقرارات الدولية. ومع الاستمرار في اقتحام الضفة الغربية والقيام بعمليات تدمير واغتيال، مما يحرج ويضعف السلطة الفلسطينية التي لا يلبون لها اي طلب او يراعون لها اية حساسية، مما يوضح ان كل هدفهم هو الوقيعة بين الشعب وحكامه، وبين الفصائل الفلسطينية التي يبدو ان الطريق قد تاهت من اقدامها فاصبحت تتصارع فيما بينها، ويرفض بعضها الحديث مع البعض الاخرين مفضلين الحديث مع المعتدي والاكتفاء بإبداء الاحتجاج عن طريق القول بان اسلوب الاحتجاج هو جعل الاجتماعات غير رسمية.

ومن الامور الغريبة ايضا ان اسرائيل اعلنت أخيرا وتباهت بتجربة صاروخ يصطاد صواريخ القسام التي تطلقها المقاومة، والتي يقال لنا انها صواريخ عبثية ليس لها اي تاثير. وقد سبق ان قلت في حديث سابق ان المقاومة للاحتلال لا تستهدف هزيمة المحتل بقدر ما تستهدف ازعاجه واشعاره بالثمن الذي يدفعه او قد يدفعه بمرور الزمن من جراء استمرار احتلاله. والا فما معنى ان تجشم اسرائيل نفسها انفاق جهد ومال في اختراع وتجربة ثم استعمال صاروخ لاصطياد صواريخ «بدائية ليس لها تاثير إلا اعطاء مبرر لمزيد من العدوان»، وكان العدوان والاسرائيلي بالذات يحتاج الى مبررات لممارسة افعاله الاجرامية التي يبررها لها البعض بالحديث عن حق الدفاع عن النفس وكأن هذه بداية القصة، مع ان بدايتها هي الاحتلال وممارساته.

ثانيا: ويدهشني ايضا على الجانب الفلسطيني ـ اضافة الى رفض الحوار ـ الاتهامات التي تتعلق بانقلاب تم وأخطاء بل جرائم ارتكبت، وبالاصرار على عودة الامور الى ما كانت عليه دون تحديد النقطة التي يجب العودة اليها هل هي اتفاق مكة، او تشكيل حكومة وحدة وطنية، او اقالتها. ودون الالتفات الى محاولات الوقيعة في مقالات نشرت في صحف امريكية ومنها «فانيتي فير» التي تتضمن اتهامات قد لا نود تصديقها ولكنها بمثابة بذر بذور شك ليس في مصلحة ايِّ طرف من الاطراف، ولا تستفيد منها سوى اسرائيل. وما زال لدي امل في ان تنجح الجهود لرأب الصدع في الصف الفلسطيني، والكف عن التصارع على سلطة غير موجودة اصلا، خاصة بعد ان تسرب منها ما كان قد بزغ كالرمال الناعمة بين اصابع اليد.

ثالثا: وما زال الكلام واللجج كثيرا حول القمة العربية، وقد تحدثنا كثيرا عنها وعن الظروف التي يجب ان نوفرها لها جميعا حتى تنجح. وقد تختلف الآراء حول معيار النجاح وحول الاولويات، ولكن يجب ان يحس الجميع اننا جميعا مقصرون حتى اذا اختلفت درجة التقصير. وقد استمعت الى تعليقات الكثير من الاشقاء العرب الذين يجمعهم الشعور بالهم العربي والكرب الذي نعانيه، وهم يندهشون من القدرة العربية على الخروج بمبادرات سواء بالنسبة لفلسطين او لبنان او غير ذلك من الموضوعات المهمة، مقترنة بعدم القدرة على الدفاع عن تلك المبادرات وترجمتها الى خطوات محددة تربط المقدمات بالنتائج، ولا تتوه في مسارات فرعية تتحكم فيها اهواء وطموحات. وهالني الشعور بأن بعض القضايا يتم الاحتفاظ بها كرهينة لقوى داخلية او خارجية الى درجة تصل الى عجائب الممارسات وغرائب التصرفات التي تجعل الارض تميد تحت اقدام الجميع فيصبح شعار «لا غالب ولا مغلوب» شعاراً آخر هو كلنا «خاسرون ومغلوبون».

رابعا: ومن العجائب والغرائب ايضا مواقف امريكية وغربية تخالف كل ما اصطلح على اعتباره سلوكا مقبولا او محتمل. ومن امثلة ذلك انه بينما تواصل اسرائيل عدوانها، فان معرض الكتاب الفرنسي يدعو الدولة المعتدية كضيف شرف لدورته الاخيرة بمقولة انها تحتفل بالعام الستين على قيامها على اساس الاستيلاء على اراضي الغير. ولا اتصور انه كان يمكن اختيار توقيت اسوأ من هذا التوقيت ينقل رسائل سلبية عن انحياز الثقافة الى قضايا لا تشرف الانسانية. وفي نفس التوقيت وبنفس المناسبة تزور مستشارة المانيا اسرائيل، ويتغاضى الاسرائيليون عن حساسيتهم المزعومة لسماع اللغة الالمانية في الكنيست، ما دامت الرسالة هي في النهاية انحياز لسياسات خرقاء تتناقض مع اية مبادئ يتباهى الغرب بأنه يحمل لواءها، مع اي نوع من السلوك الحضاري الذي يريد الغرب ان يأخذ العالم دروسه بشأنها بجدية واحترام. اما الولايات المتحدة، فانها لا تكف عن التصرفات التي تثير العجب، ومن ذلك محاولتها السافرة التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين كنصيحتها المعلنة بكل بجاحة للعرب بان يفكروا مليا قبل حضور قمة في دمشق، ومن ذلك الدعوة الى حقوق الانسان واصدار التقارير بادانة الدول بحجة خرقها بينما هي تعرقل قوانين امريكية تحاول منع التعذيب، وبينما هي تحتفظ بمعتقل غوانتانامو الذي تحتجز فيه من تختار احتجازهم بعيدا عن أي قانون او شفافية. ونرى واشنطن تعترف دون خجل ودون ان تتحمل اية مسؤولية عن اعترافها بان الادعاءات التي بررت بها غزو العراق سواء بالنسبة لصلة النظام الصدامي المقيت بالقاعدة او امتلاكه اسلحة نووية ـ كلها ادعاءات باطلة او ملفقة، نراها تتحدث عن الانتخابات الايرانية بنقد قد يكون مبررا ولكن لا ينسينا ما احاط بنجاح الرئيس بوش في انتخابات رئاسته الاولى من شكوك بشأن ممارسات لو كانت جرت في بلد آخر لاعتبرتها واشنطن فضيحة الفضائح. كل هذا اضافة الى ان نائب الرئيس تشيني الذي كان قد اختفى ـ ربما خجلا لفترة طويلة ـ عاد الى مقدمة المسرح، ولعل ذلك ايذاناً بموجة جديدة من السياسات الخرقاء التي كلفت واشنطن حتى الآن الاف القتلى ومليارات الدولارات واصابت اقتصادها بامراض عضال تكاد تنقل عدواها الى بقية العالم. وهنا يثور سؤال ـ خاصة بعد استقالة الاميرال فالون ـ عما اذا كانت واشنطن تستعد لحرب جديدة في المنطقة ضد ايران رغم ما هو معلوم من التأثيرات السلبية لمثل هذه الحرب على المنطقة كلها، خاصة ان الاوضاع في العراق هي على ما هي عليه وما وصفته تقارير لهيئات دولية بأنه سيئ جدا، وان الشعب العراقي يعاني مع الخراب والانقسام من نقص في الماء والغذاء علاوة على انعدام الامن الذي ادَّعوا انهم سيجيئون به، والديمقراطية التي بشروا انها ستكون مثالا فاذا هي امثولة. عجائب وغرائب.. وهناك الكثير غيرها.. تجعل المرءَ يتساءل عما اذا كانت الانسانية تسير الى الخلف بدلا من تخفيف التقدم الذي تصورنا انه سيميز القرن الواحد والعشرين، فاذا بالمقاييس تنقلب، والكوارث تقترب والآمال تنزوي.. الا اذا كنا على استعداد لكي نساعد الشمس المنزوية وراء السحب العاصفة على ان تبزغ على عالم جديد طالما حلمنا به. ولهذا حديث آخر.