يبكر مثل الأمهات

TT

إنه الربيع في لبنان. لا نعرف ذلك من مراجعة «الروزنامة» على الجدار. هي، الروزنامة، تعلنه الحادي والعشرين من آذار وتجعله ايضاً يوم الأم. لا يتقيد الربيع بالتاريخ المخدوع، ولا يتقيد حب الأم بيوم أو دهر أو زمان. الحقيقة أن الربيع يخدع دائماً البداية الرسمية للفصل. دائماً يبكر مثل الأم. ولوصوله علامات لا تخطئ. تكثر عصافير الدوري في مزاريب السطوح. يتوقف المطر فتأتي عصافير الدوري. مثل المجانين تأتي. تدخل وتخرج كأنها في مهرجان. لا ندري أين كانت ولا من أين أتت. فجأة نلمحها في ساحة القرية أسرابا تهزج بلغة غير مفهومة. تحلق وتهبط وتغط وتختفي في مزاريب السطوح. ولا أدري لماذا تختار القرميد. هي والسنونو، تختار القرميد. والسنونو ايضاً تطير بسرعة كأنها راكضة من المدارس في أول العطلة المدرسية. يحدث كل ذلك قبل أيام كثيرة من بلوغ الروزنامة يوم الربيع الرسمي. وتحدث أشياء كثيرة أخرى. تمتلئ الحقول غير المزروعة والمعتنى بها ألوانا وعطرا وفراشات. كل فراشة تتخذ لون زهرة. والفراشات الحاذقات تتخذ من كل زهرة لونا. وتبدو الفراشات البيضاء عجيبة، كأنما لم تبلغها امهاتها بلعبة الالوان ومساحيق الزهر، لكنها ترق في أي حال، هادئة فرحة وملكية، وتشارك فراشات الألوان في رقصة الباليه وعرض الربيع. وتمر برحيق الزهور أميرة مترفعة بكل أدب وتربية. تمكث قليلا ثم تطير، ولا تحلق عاليا، لا تفارق عبق الحقول ولا تبعد عنها ألوان البنفسج. كل هذا والروزنامة نائمة على الجدار لا تدري ان الحادي والعشرين من آذار قد وصل قبل الأوان، مغافلا اتفاق الفصول، متجاوزا قوانين الطباعة. حاول كثيرا ان يرد أسراب السنونو وأن يجعلها تنشطر عند الحدود. حاول إقناعها بأن الشتاء لم يغادر بعد وأن المزاريب لا تزال رطبة ومعتمة. لكنها ضحكت وتقدمت. هي لا ترى الربيع، هي تتلمسه بمناقيرها الصغيرة. وتتواعد في سطوح القرميد، مثل هذا الوقت. تحدد ربيعها وتغني له وتنشِّف أجنحتها من بقايا الرذاذ وتلبي دعوة هذا المهرجان: بولشوي الفراشات وأوبرا البلابل ومواكب البنفسج وأعراس العطور. ندرك أنه وصل وأن الروزنامة لا تزال بليدة. وندرك في حزن، شيئاً آخر: لم يعد في لبنان ربيع ولا أبناء يحتفلون بيوم الأم. إنهم يملأون المراكب.