النتيجة: خراب العراق.. وخدمة إيران.. وتدهور الاقتصاد الأمريكي

TT

سمّوه (جنونا) أو (وهم الايدلوجية)، أو (غباوة القوة)، أو (التحجر في الحساب والرؤية)، فهذه الأوصاف هي ـ وحدها ـ التي تلائم أو تنطبق على (المأساة) السياسية والاقتصادية والحضارية والانسانية التي صنعها المجانين أو المحافظون الجدد الأمريكيون في العراق قبل سنوات خمس عبر الغزو الاحتلالي المسلح المباشر في مطالع القرن الحادي والعشرين!!. ذلك أن حشر هذا السلوك الشاذ في كلمات مثل: العقل.. والمصلحة.. والحرية.. والأمن.. والسلام، إنما هو امتهان وابتذال لهذه الكلمات الأصيلة النبيلة، وإلا لجاز وصف الجريمة أو الحماقة بالعدل أو العقل!.

والدليل على انها جريمة كاملة، أو حماقة تامة: (جبل ضخم) وشاهق من الحقائق والوقائع التي لا تتطلب رؤيتها ـ كما هي وبوضوح شديد ـ إلا قوة الإبصار: من تحديق وتركيز، ومعاودة التحديق والتركيز.

ونحن مضطرون إلى إيجاز تلك الحقائق والوقائع والأدلة والبراهين: على النحو التالي:

1 – الحقيقة الأولى (دمار العراق).. فالغزو الأمريكي للعراق (ودعك من القوات الأخرى المساندة التي جيء بها: كمكياج تجميلي لمزاعم الشرعية الدولية).. هذا الغزو قد ترتب عليه (تدمير كامل) للبلد كله، وهو تدمير تبدى في صور شتى: صورة دمار البنية الأساسية لكل مرفق: التعليم، والصحة، والزراعة، والصناعة، والمواصلات، والاتصالات، والمتاحف الخ.. وصورة قتل أكثر من مليون عراقي. وصورة تشريد خمسة ملايين عراقي.. وصورة وجود نحو مليون مشوه ومعاق عراقي.. ثم.. ثم.. أو قبل.. قبل: تدمير مؤسسة الجيش العراقي. ويكشف قرار (حل) الجيش العراقي عن أن المحتل قد بدا وكأنه قادم من قاع العالم الثالث أو المتخلف من حيث اتخاذ القرار. فالحاكم الأمريكي للعراق (بريمر) اتخذ قرار حل الجيش العراقي بدون الرجوع إلى وزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين!! وهو قرار بليد تسبب في معظم الفوضى التي تفشت في العراق بعد ذلك.. يضاف إلى ذلك جريمة (الحط من كرامة العراقيين). لقد اتُّهم النظام السابق الهالك بأنه معتد على حقوق الإنسان العراقي. وهي تهمة صحيحة بالتوكيد، بيد ان الاحتلال (قلّد) النظام السابق في إهدار كرامة العراقيين.. فعلى سبيل المثال قال الجنرال الأمريكي انتونيو تاغوبا (وكان قائدا في عمق العمليات الميدانية في العراق). قال في تقرير صاعق: «إن التعذيب والإهانة والتحقير كانت عملا منهجيا منظما ومنتظما. وقد ارتكبت هذه الانتهاكات المنهجية بطريقة متعمدة مارستها عناصر في قوة الحراسة في الشرطة العسكرية. وهناك إفادات وصور وأفلام مفصلة تثبت ذلك، وهذه الوثائق التي تكشف أشد الأفعال قبحا موجودة بين يدي قيادة التحقيقات الجنائية وفريق الادعاء الامريكي. ومن صور الانتهاكات: إرغام معتقلين ذكور على ارتداء ألبسة نسائية داخلية، وتطويق رقاب معتقلين ذكور عراة بجنازير كلاب، وإقدام عنصر من الشرطة العسكرية على اغتصاب معتقلة وممارسة الجنس معها. وهؤلاء الذين فعلوا ذلك، تلقوا ثناء واطراء من رؤسائهم تقديراً لهم لما فعلوه».. وقد انتظم تقرير تاغوبا: قائمة بأسماء عشرات الضباط والرقباء الأمريكيين، وقائمة أخرى بأسماء المتعاقدين المشاركين في التعذيب، في مقدمتهم (جون اسرائيل) الخبير في هذه الشؤون.. هذه هي الحقيقة الأولى لغزو العراق واحتلاله: دمار العراق: ماديا ومعنويا، مؤسسات وبشرا، تاريخا وحضارة.

2 – الحقيقة الثانية الكبرى الناتجة عن الاحتلال الأمريكي لهذا البلد هي (خدمة إيران).

لا تعد ولا تحصى جرائم خطايا النظام السياسي الغبي الأبله الذي كان يحكم العراق وهذا صحيح، ولكن الحقيقة العارية التي يتوجب أن يحدّق فيها ساسة المنطقة ـ بخاصة ـ تحديقا مجردا من خداع الذات، ومن مداهنة الأمريكان.. هذه الحقيقة العارية هي ان ادارة المحافظين الجدد الأمريكيين قد (سلّمت) العراق لايران.. ومن شواذ الغرائب في هذا السياق: ان المحافظين الجدد الذين أزالوا الجدار العربي القوي: الجغرافي والتاريخي من أمام ايران: رفعوا هم أنفسهم أصواتهم محذرين العرب من النفوذ الايراني في العراق!. فقد أطلق أحد كبرائهم في الأسبوع الماضي هذه التحذيرات، بينما هو يلتقي مع أقوى حلفاء ايران في العراق، وهو عبد العزيز الحكيم!!.. هل يضحك هؤلاء الناس على أنفسهم، او يضحكون على أهل المنطقة؟.. من المعروف ان لايران طموحات قديمة تجاه العراق.. وعلى مدى التاريخ كله: لم تجد هذه الطموحات مناخا أفضل ولا أعظم ولا أيسر ولا أعجل من المناخ الذي هيأه لها المحافظون الجدد على العراق.

هذه هي الحقيقة أو النتيجة الثانية لغزو العراق واحتلاله: حقيقة ان الولايات المتحدة – في ظل هذه الادارة الغريبة الأطوار والتصرفات – قد سخرت جيشها وسياستها الخارجية واستخباراتها وترليونات من دولاراتها من أجل (خدمة ايران): عبر تمكينها من شؤون العراق ومصائره.. يضم الى ذلك: ان هذه (الخطيئة طويلة الأمد): بمعنى: ان نفوذ ايران في العراق سيطرد في المكان نفسه، وفي الزمن الآتي، مهما كان نوع الحكم في ايران، واياً كانت الادارة الامريكية في المستقبل.. والسؤال الفاجع الفالج هو: هل كانت ادارة المحافظين الجدد على علم تام بهذه النتيجة؟.. إذا كانت تعلم فهي متهمة بالتواطؤ مع النظام الايراني، واذا كانت لا تعلم فهي متهمة بـ(الجهالة المطبقة المطلقة).. أما إذا كانت نتيجة تسليم العراق لايران: بسبب أخطاء فاحشة في الحسابات، فإن هذا الخطأ الفاحش يساوي ـ في التحليل النهائي: التواطؤ الخبيث، أو الجهالة المطلقة.

3 – الحقيقة أو النتيجة الثالثة لاحتلال العراق هي تدهور أو (تصدع) الاقتصاد الامريكي.. بديه ان هناك عوامل عديدة لهذا التدهور، لكن مما لا ريب فيه أن: الغزو الأمريكي للعراق هو من أقوى عوامل هذا التدهور.. فقد جزمت بذلك مجلة (نيشين) الامريكية في تقرير موثق بمناسبة مرور ذكرى خمس سنوات على غزو العراق واحتلاله. وقد نشرت المجلة تقريرها المطول تحت عنوان (الحرب قتلت الاقتصاد الامريكي).. ومما جاء في هذا التقرير: ان ما انفق على الحرب في الواقع يفوق خمسين مرة التقديرات الأولى لتكلفة الحرب، وان أوعية اقتصادية واجتماعية قد تعطلت بسبب نفقات الحرب منها ـ مثلا ـ: شبكة من المدارس الابتدائية والثانوية.. والتأمين الصحي.. وان ميزانية الحرب في عام 2007 ـ فقط ـ قد أضاعت على الامريكيين مليون وظيفة.. وفي كتاب جديد ـ صدر بالمناسبة ذاتها ـ بعنوان (حرب الثلاثة ترليونات دولار) من تأليف كل من: جوزيف ستجليتز الخبير الاقتصادي الحائز جائزة نوبل. وليندا بيلمز.. ويثبت المؤلفان في كتابهما هذا: ان تكلفة الحرب النهائية ستبلغ ثلاثة ترليونات دولار، وان هذه الحرب كلفت كل أسرة أمريكية مكونة من أربعة أفراد مبلغ 16900 دولار، وانه من المرجح ان ترتفع الفاتورة الى 37 ألف دولار بحلول عام 2017.

والمعلومة الاقتصادية العامة التي يعلمها الخبير الاقتصادي. والشخص العادي هي: ان الدولار الامريكي ينحدر بسرعة مخيفة جعلت دوائر أوروبية تحذر من التعامل الصرفي معه.. ومن أسباب هذا الانحدار المقطوع بها: سبب دوامة الحرب التي طحنت عافية الاقتصاد الأمريكي.. وهذه كلها أوضاع اقتصادية كئيبة حملت وزير الخزانة الامريكي هانك بولسون على أن يقول: «ان الاقتصاد الامريكي يواجه انحدارا سريعا، وان الدين على امريكا ارتفع من 5 تريليونات عند تسلم بوش السلطة، الى نحو 10 ترليونات في السنة القادمة 2009».. وقد لحظ خبراء الاقتصاد: ان هذه الادارة لم تتخذ أي اجراء جدي عندما تجاوز الدين 7 ترليونات في 13 يناير عام 2004، فقد اكتفى الرئيس في بداية ولايته الثانية بأن يقول: ان الوضع المالي الامريكي سيتحسن فور انتهاء الحرب على الارهاب!!!

عجبا.. عجبا.. عجبا عشرة ترليونات مرة (بمقدار الدين على امريكا).. عجبا: لماذا تعمد دولة كبرى الى ان تفقأ عينيها بيديها، وتؤذي نفسها بهذه الطريقة المتوحشة، وتؤذي الآخرين معها؟.. ما السبب؟.. ما العلة؟.. هل العلة انها ـ وهي تعزم على اقتراف الخطيئة ـ: انها لم تجد من ينصحها ويحذرها من عواقب هذا الخبل والهبل؟.. لا، ليس هذا هو السبب بدليل ان نخبا امريكية عالية المستوى والاخلاص لبلدها قد جهرت بهذا النصح المبكر.. من هؤلاء برنت سكوكروفت مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جورج بوش الأب. فقد قال: «ان الولايات المتحدة ستخسر حلفاءها في الحرب ضد الارهاب اذا شنت حربا على العراق».. ومنهم لورانس ايجلبير وزير الخارجية الأمريكية الأسبق الذي جهر بما يلي: «ان تغيير النظام بالقوة في العراق لا يمكن ان يعد سياسة مشروعة».. ومنهم مجموعة الشركات ورجال الأعمال الأكثر وزنا في الحزب الجمهوري فقد وجهوا الى بوش الابن خطابا صريحا جاء فيه: «تبرعنا لك ودعمناك، والآن نطالبك بأن تعيد الينا تبرعاتنا.. لماذا تقودنا الى حرب خاسرة، والى وضع فشله حتمي».. ولقد شاركنا في هذا النصح بدافع محبة الخير لأمريكا وشعبها، إذ كتبنا في هذا المكان بتاريخ - 16/11/2002 -: «ان اجتناب الحرب مكسب وراحة وخير للمنطقة كلها. ومما لا ريب فيه ان حربا جديدة ستدخل المنطقة في مناخ كريه من الاضطراب والفوضى. وليس في هذه الفوضى مصلحة لأحد: لا للعراقيين، ولا للعرب، ولا لأمريكا، ولا للعالم، صاحب الهوى الوحيد في هذه الحرب هو المؤسسة الصهيونية في فلسطين والعالم»، فهل تجيب العبارة الأخيرة عن سؤال: لماذا فقأت أمريكا عينيها بيديها؟!