حيرة الصحافة الحرة بين مسؤوليتها للمهنة ولحملة الأسهم

TT

جيل اساتذة الصحافة الكبار علمونا، منذ نعومة أقلامنا، ما صار نقشا على الحجر من قيم وقواعد مهنية نلتزم بها في التقارير الاخبارية، كالتزام كرادلة الكاثوليك بالأصول اللاتينية من العهد القديم.

لحسن حظي، ومدعاة افتخاري، اني تتلمذت، منذ اربعين عاما، في الـ«ديلي تلغراف» (قضيت بها، على فترات متقطعة، اكثر سنوات حياتي المهنية، اذ تنقلت بين كل الصحف باستثناء الـ«غارديان») على يد اهم رؤساء تحريرها، الصحفي الاسطوري المرحوم السير ويليام ديديز.

كنا نناديه بالاستاذ «سير» وهو ينادينا بالاولاد. واكبر رئيس ديسك امام السير بيل مجرد «يا ولدي العزيز My dear boy ، اسمع... كذا وكذا». تراكمات الـ«كذا وكذا» هذه اهم ما تعلمناه من الصحفي العظيم على مر السنوات.

السير بيل الذي مات في العام الماضي كان الاب الروحي لفليت ستريت؛ وكان اكبر صحفي عالمي يزور دارفور، قبل اربعة اعوام بعد تجاوزه الثمانين، لينبه العالم للتطهير العرقي وعمليات الابادة، قبل ان ينتبه شياب الصحافة للماساة .

والى جانب تعظيمه حرية الصحافة كحق للأمة كلها لا يمكن التفريط فيه لأي سبب، علمنا جيل السير بيل تجنب ان يصبح الصحفي موضوع الخبر، واذا حدث فليكتب مرثيته المهنية بقلمه.

تذكرت استاذي العظيم صباح الاربعاء عندما اصبح زملاء في المهنة موضوع الخبر في نشرات الاخبار الاذاعية. مجموعة صحف الـ«ديلي اكسبريس» (الاكسبريس والستار والسبورت وشقيقاتها الاسبوعية) التي توزع فيما بينها ثمانية ملايين نسخة، طبعت على صفحاتها الاولى بالبنط العريض اعتذارا للطبيب الدكتور ماكان وزوجته.

كما دفعت ما يزيد على مليون دولار تعويضا للأبوين، في صندوق خاص يتلقى تبرعات للبحث عن طفلتهما مادلين التي اختفت في البرتغال في الصيف الماضي عندما شغلت الحكاية الصحافتين البرتغالية والبريطانية والعالمية لشهور، ولا تزال بلا نهاية.

تسريبات البوليس البرتغالي لصحافته نقلتها البريطانية باشتباههما في تورط الابوين في اختفاء وربما «قتل» الطفلة .

لأشهر طويلة ناشد الابوان الصحف هنا، في بريطانيا، ألا تعيد طبع ادعاءات صحف البرتغال قائلين إن مصدرها الشائعات وثرثرة الجيران في القرية الساحلية الصيفية التي اختفت فيها الطفلة مادلين. لكن ذهبت جهودهما أدراج الرياح.

لا توجد في بريطانيا ـ والحمد لله ـ قوانين لتنظيم الصحافة. هناك فقط مفوضية، بلا مخالب او أنياب، اسمها مفوضية التحقيق في الشكوى ضد الصحافة Press Complaints Commission، يرأسها حاليا السير كريستوفر مير، سفير بريطانيا السابق في واشنطن، وهو صحفي ومؤلف.

مجلس المفوضية يتكون من لجنة من صحفيين متقاعدين ذوي خبرة طويلة، يمثل مجلس اعضائه رؤساء تحرير الصحف القومية (13 يومية، 16 اسبوعية) وقرابة 250 من الصحف المحلية).

للمفوضية لائحة مهنية code of practice اتفق عليها الصحفيون انفسهم وابتكروها عن الحيادية والتوازن ونشر الحقائق الموثقة فقط (المقصود كلمة facts اي حقائق ثابتة وليس truth التي تحمل بعدا اخلاقيا) بعد التحقق منها.

هذه القواعد المهنية تبلورت وصقلت وانصهرت عبر ثلاثة قرون من العمل الصحفي لتصبح الدستور الداخلي المطبق ذاتيا لأي صحيفة style book .

لخصت المفوضية القواعد كدليل أخلاقي للمهنة من اختراع الصحفيين انفسهم ولم يفرض عبر سلطة حكومة او وزارة إعلام، فالحمد لله مرة اخرى لعدم وجود وزارة اعلام في بريطانيا يتربع فوق تلها وزير غريب الشكل والشأن معا (تعبير مستعار من قاموس عمنا الكبير محمود السعدني، ابو الصحافة الساخرة). ولذا فمن النفاق المهني انتهاك زميل لقواعد واخلاقيات مهنية فرضها بنفسه، ولم يفرضها عليه وزير اعلام متخلف في ديكتاتورية انقلاب عسكري.

الإشكالية التي خلقتها تغطية الصحف لقصة الطفلة مادلين ماكان، كشفت عن تناقض يصعب تجاوزه فرضته الظروف السياسية والاجتماعية التي تضمن للصحافة حريتها في المجتمع الليبرالي الديموقراطي الذي يقدس حرية التعبير فيستحيل ان توجد فيه قوانين تنظم هذه الحرية.

فعبارة «قوانين لتنظيم حرية الصحافة» تحمل تناقضا ذاتي التدمير، فالحرية لا تنظم بقوانين لا وجود لها الا في الديكتاتوريات الشمولية.

فالصحافة الحرة توجد فقط في نظام حرية السوق المفتوح الكامل الذي يعتمد المنافسة الحرة، وحرية امتلاك أسهم المنشآت التجارية بما فيها الصحيفة، ودون النجاح تجاريا، تضطر الصحف للتمويل من حزب سياسي او دولة فتفقد استقلاليتها.

الـ«اكسبريس»، شأنها شأن بقية الصحف هنا، شركة تجارية ادارتها مسؤولة أمام حملة الاسهم، وتتعرض سلعتها لمنافسة السلع المشابهة في سوق مستهلكوه هم القراء والمشاهدون والمستمعون.

الـ«بي بي سي» حالة استثنائية لأنها تمول من تحصيل رخصة التلفزيون من كل بيت، مما يمنحها استقلالية يحسدها عليها الاخرون؛ باستثناء الخدمة العالمية والاذاعة والتلفزيون باللغة العربية، فتمولها وزارة الخارجية من الضريبة العامة. ولذا تحكم الـ«بي بي سي» قواعد وارشادات مهنية اكثر صرامة فرضها مجلس مستشاري الهيئة، لان الـ«بي بي سي» خدمة عامة خارج إطار مساءلة حملة الاسهم عن حسابات الربح والخسارة. وهذا لا يعفيها طبعا من الالتزام بلائحة الممارسة code of practice التي اصدرتها مصلحة مراقبة الاتصالات Of-com.

بعض الصحف، كالـ«اكسبريس» وشقيقاتها، تجاهلت توجيهات المفوضية التي استجابت لشكوى ابوي مادلين، ومضت في نشر الشائعات التي ارسلها مراسلوها من البرتغال، طمعا في زيادة التوزيع، لدرجة ان السير كريستوفر مير، دعم لجوء آل ماكان للقضاء.

السعي لزيادة التوزيع كان ايضا سبب استمرار الـ«اكسبريس» على مدى عشرة اعوام، في نشر كل ما يدعم ادعاءات محمد الفايد ان موت ابنه عماد والاميرة ديانا في حادثة النفق في باريس عام 1997، كان مدبرا من المخابرات؛ ليس حبا في الفايد، بل لان صور ديانا ونظرية المؤامرة تضمن زيادة التوزيع.

سبب تجاري محض وليس مهنيا (يمكن الجدل منطقيا، بان زيادة التوزيع رسالة مهنية لان النجاح التجاري يضمن استقلالية الصحيفة وحرية الكلمة مما يدعم نفوذ السلطة الرابعة كدعامة ديموقراطية).

فور تلقيها، مساء الاثنين، خطابا من محامي ماكان «بالنية في المقاضاة»، نصح محامي الـ«اكسبريس» موكله بانه سيخسر قضية القذف والتشهير اذا لم يتمكن مراسلو الصحيفة من تقديم أدلة تقنع المحلفين بتورط الأبوين في اختفاء الطفلة.

اعتذار، وغرامة مليون دور، تساوي تقريبا مليوني نسخة مباعة، وهو مبلغ يقل كثيرا عن خمس الدخل من ثمن مبيعات النسخ الاضافية من الصحف الاربع على مدى ثلاثة اشهر في الصيف الماضيٍ، ناهيك من دخل الاعلانات وزيادة أعداد زائري الموقع على الانترنت، وهو بدوره يدر دخلا إعلانيا آخر.

ولذا سيظل التناقض قائما، ما يدفع البعض للجوء للقضاء احيانا، لكنه وضع افضل من اصدار قوانين للصحافة وتنصيب وزير للاعلام.