لبنان واحتمالات الحرب الأهلية

TT

يتساءل الكثير من المحللين، هل هناك قدرية تتحكم في مصير بعض الدول؟ ولماذا تقع الحروب الأهلية في بعضها، ولا تقع في أخرى؟ وهل هناك ظروف جيوبوليتيكية تجعل دولة ما تعاني من الحرب الأهلية، وتُبعدها عن غيرها؟ أو بالأحرى، لماذا تتكرر الحروب الأهلية في مكان، ولا تتكرر في آخر؟ وما هي ظروف تشكل الحرب الأهلية ـ الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية؟ وهل تخدم الحرب الأهلية نظاما دوليا أو إقليميا معينا؟

تختلف تأثيرات الحروب الأهلية عن غيرها من الحروب التقليدية. فالصدمة النفسية للحرب الأهلية تستمر وقتا طويلا في المجتمعات حتى وإن توقفت الحرب.

تقول الكاتبة الأميركية باربرا والتر: إن المجتمعات التي عاشت حربا أهلية، هي أكثر عرضة إلى عودة الحرب الأهلية لأكثر من مرة. وتركز الكاتبة في أبحاثها على أمور ثلاثة تعتبرها أساسا لمعرفة سبب تجدد الحرب الأهلية، وهي:

1) أسبـاب اندلاع الحرب الأهلية

2) كيف خاض الفرقاء الحرب؟

3) وأخيرا كيف انتهت الحرب (آلية إنهائها)؟

في الحروب الأهلية، تضيق وتصغر مفاهيم الانتماء والهوية. وتتم عملية الفرز السكاني وفق الانتماء والهوية. تختلط الأمور في الحروب الأهلية، كما تتبدل الصور النمطية للآخر، وحتى للذي كان صديقا لفترات طويلة. فكيف يصبح الجار السني عدواً للجار الشيعي (العراق)، بعدما عاشا جنبا إلى جنب عقوداً؟

تأخذ الحروب الأهلية صفات متعددة، من العرقية، إلى الدينية، إلى المذهبية وحتى تحت شعار الثورة بين أهل البيت والفريق الواحد.

إن مرحلة الحرب الأهلية وظروفها، هي ليست بالتأكيد مماثلة لمرحلة ما بعد الحرب الأهلية. بكلام آخر، تولد الحرب الأهلية دينامية جديدة خاصة بها، كما تصنع إطارا معينا لا يمكن العودة عنه. وتنتج الحرب الأهلية ثقافة خاصة بها، كما تنتج رجالاتها بعد أن تلغي زعامات سابقة. في الحروب الأهلية، هناك تحول وتبدل في توزيع الثروات، فمنهم من يفقد ثرواته، ومنهم من يُكدسها. وأخيرا وليس آخرا، يتبدل عمل المؤسسات الرسمية، خاصة الأمنية، في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية كما تتبدل طبيعة لُحمتها الداخلية.

لكن النقطة الأساسية والاهم وفق المفكرين، تندرج في مرحلة ما بعد الحرب، خاصة في قدرة الدولة الجديدة على إيجاد خطاب جديد وثقافة جديدة لمرحلة ما بعد الحرب، والعمل على وضع آلية حل للازمات التي كانت سببا للحرب.

لكن الأكيد، ان بناء دولة ما بعد الحرب الأهلية هو مسار طويل وشاق ومُضنٍ وليس قرارا بسيطا.

أين لبنان من هذا؟

بدأت الحرب في لبنان بين اللبنانيين والفلسطينيين. وتحولت إلى حرب بين المسلمين والمسيحيين. وبعدها بين الشيعة والدروز في بيروت. كذلك بين حركة امل الشيعية والفلسطينيين، وبين الشيعة والشيعة (امل ضد حزب الله). وأخيرا وليس آخرا، كانت الحرب الضروس ضمن صفوف الموارنة بين الجيش بقيادة العماد ميشال عون و«القوات اللبنانية» بقيادة سمير جعجع.

كذلك، فرزت الحرب اللبنانية الطوائف والمذاهب. ومن ينسى حرب الجبل، وكيف تشكلت وزارة المهجرين؟

بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، تبدلت صورة وطبيعة القيادات. استمر بعضها، وتبدل الآخر. من هنا التسمية الشهيرة: أمراء الحرب. كذلك تبدل توزيع الثروات.

لم تكن حرب 1975 الحرب الأولى في لبنان. وقد لا تكون الحرب الأخيرة. إبان زمن الإمارة في القرن التاسع عشر وقعت حربان بين الموارنة والدروز. كذلك الأمر كانت حرب 1958.

في تلك الحروب، كانت الحلول السياسية لإنهاء القتال تُفرض فرضا على اللبنانيين. كانت القائماقامية أولا، بعدها المتصرفية، بعدها فرض انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً، وأخيرا فرض اتفاق الطائف.

إذاً هناك نمط متكرر تكوّن في تاريخ حروب لبنان الأهلية يقوم على: قلاقل داخلية لأسباب كثيرة داخلية وخارجية، اندلاع الحرب الأهلية، وبعدها فرض الحل السياسي.

إن واقع لبنان الحالي هو في مرحلة ما بعد فرض الحل السياسي (الطائف). وهو أيضا في مرحلة القلاقل الداخلية خاصة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبسبب تداعيات حرب تموز 2006. كذلك، هناك محاولات دولية وعربية لتجاوز خطر وقوع الحرب الأهلية، والقفز مباشرة إلى المرحلة الثالثة من النمط المذكور أعلاه لفرض الحل السياسي، لكن دون نجاح حتى الآن. وبسبب الفرز الذي خلفته حرب العام 1975، يُمكن القول اليوم ان الصدامات التي تقع في لبنان هي صدامات مذهبية في مكان (طريق الجديدة ) وضمن المذهب الواحد في آخر (عون ـ جعجع).

وإذا كانت الصدامات تدور في طريق الجديدة على خطوط التماس بين المذاهب. فإنها تدور في المناطق المسيحية ضمن الخطوط الداخلية لتوزع مناطق نفوذ الأطراف.

وإذا كان الفرز المذهبي في أصله سيئا، فإنه مفيد في حال عودة الحرب الأهلية، فقط لأنه يجعل الحرب الأهلية تدور على الأطراف.

إذاً نحن اليوم أمام مرحلة ترسيم الحدود بين المذاهب، وأمام مرحلة التثبيت لهذه الحدود. وهذا أمر ظاهر في الخطاب السياسي اليوم (الحديث عن شراء الأراضي مثلا) كما هو ظاهر في الحوادث التي تقع على الأطراف.

لكن المصير الأكثر سوادا سوف يكون في حال اندلاع الحرب من نصيب المناطق المختلطة. تعاني اليوم بغداد من هذا المصير، وقد لا تنجو بيروت منه أيضا. ما الذي يمنع عودة الحرب الأهلية؟

هناك أسباب عدة لذلك منها الداخلي ومنها الخارجي. إذا وقعت الحرب، فهذا يعني انتهاء حزب الله كحركة مقاومة. كذلك، سوف يُضرب المشروع الايراني في المنطقة، وهو المشروع الذي كان قد بُني تحت عباءة الإسلام، وليس تحت عباءة المذهب. الحرب الأهلية في لبنان سوف تكون مذهبية وبامتياز، وهذا أمر سيسقط المشروع الايراني في كل المنطقة. هذا عدا ممانعة المملكة السعودية المطلقة لعودة الحرب الأهلية.

كذلك، هناك اهتمام دولي بلبنان لم يسبق له مثيل. وإذا كان للحرب الأهلية الأخيرة دور ـ هدف ـ إقليمي ودولي، فإن منع الحرب ـ حتى الآن على الأقل ـ هو أيضا هدف دولي.

الإصبع على الزناد، الأرض جاهزة، وخطاب التعبئة عالي اللهجة. وإذا كانت عودة الحرب الأهلية اليوم غير مفيدة لمن يمنعها، فمن يضمن تبدل الديناميات السياسية، وبالتالي انفلات الوضع؟

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي