نحو إنشاء هيئة وطنية للترجمة والتعريب

TT

كانت الترجمة عبر العصور، حلقة رئيسية من حلقات نهضة الأمم والمجتمعات، فعلى سبيل المثال، ساهمت ترجمة الفلسفة الإغريقية في النهضة المعرفية في العصور التالية، ويذكر المنصفون في العالم للمسلمين فضلهم في ذلك، ولكن أين نحن الآن في هذا المجال، بعد أن أصبحت الترجمة وسيلة من وسائل توطين العلم والتقنية على أسس تنسجم مع متطلباتنا وأولوياتنا؟

فما زال عالمنا العربي في حالة بدائية على صعيد الترجمة والتعريب، بالرغم من إنشاء عدة مؤسسات ومراكز ومعاهد لخدمة الترجمة والتعريب، مثل مكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، والمعهد العربي العالي للترجمة بالجزائر التابع لجامعة الدول العربية وغيرها. ولا نغفل الجهود المبذولة في مجال التعريب بمجامع اللغة العربية، والجوائز العربية والقطرية لتشجيع حراك الترجمة.

بصورة عامة نجد أن بعض تلك الجهات قامت بجهود مشكورة في صياغة عدد من المعاجم المتخصصة، أو ترجمة عدد من الكتب الأدبية والعلمية أو عقد مؤتمرات وندوات في الترجمة والتعريب، تمخضت عن عدة توصيات وقرارات. ولكن رغم تلك الجهود، إلا أن الحال بقي على ما هو عليه بسبب ضعف المخرجات كماً وكيفاً. فجاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أن مجموع ما ترجم في عهد المأمون حتى وقت التقرير، يصل إلى 10000 كتاب مساوٍ لما تترجمه دولة كأسبانيا في عام واحد؛ ومثال آخر نجد أن ما يترجم في العالم العربي بأكمله يعادل خمس ما يترجم في اليونان. وعند دراسة تلك التجربة نجد أنها بعيدة في مستواها عن تجارب متقدمة في دول أخرى كاليابان ـ مثلاً ـ التي تنتج أكثر من حوالي 30 مليون صفحة مترجمة سنوياً في مختلف العلوم والتقنية وأسهمت تلك الإنتاجية المتواصلة في توطين التقنية والعلم.

وعند النظر بتأمل إلى ميدان العمل في السعودية، في محاولة لاستجلاء واقع مهنة الترجمة فيها، نجد أن صور الإنتاج تتعدد، وأشكال الخدمة المقدمة تتنوع، وفقاً لمتطلبات العمل واحتياجات السوق وضغط معادلة العرض والطلب. أما إذا حاولنا التعرف على ماهية أعمال الترجمة المطلوبة في ميدان العمل، فسنخرج بقائمة طويلة من الأعمال المتنوعة. وعند محاولتنا التعرف على الهوية الاحترافية لمن يقوم بمهمة الترجمة بأشكالها المتنوعة وصورها المتعددة، فإننا سنجد بجانب المنتمين لحقل الترجمة والباحثين عدداً كبيراً من أصحاب المهن المختلفة. والمحصلة النهائية لنتاج الترجمة هي أعمال متفرقة هنا وهناك بعيداً عن التنسيق والعمل المؤسسي.

وفي خضم هذا الحراك نود أن نطرح بعض التساؤلات:

ـ إلى أي مدى تراعي هذه الدورة الإنتاجية في حركتها أصول الصنعة وضوابط المهنة؟ وهل تخضع هذه الحركة لمعايير جودة خاصة بها؟

ـ هل ممارسو الترجمة في السعودية تتوفر فيهم المؤهلات اللازمة لذلك؟ وهل تستوجب الممارسة الاحترافية للترجمة شروط ومواصفات خاصة باحتراف المهنة؟

ـ هل هناك مرجع معني بهذه المهنة وتنميتها وضبط مسارها؟

ـ كيف نبدأ برامج التوطين في مجال الترجمة على الوجه الصحيح؟

وهنالك الكثير من التساؤلات التي تمس الجانب الاحترافي للترجمة في السعودية، ونحن بحاجة لمزيد من البحث والتقصي لكي نتمكن من الإجابة عنها جميعها. ولكن بالتأكيد لسنا بحاجة لمزيد إثبات لضعف نتاج الترجمة كماً وكيفاً حيث أشارت عدة دراسات لذلك.

إن نظرة فاحصة إلى حال الترجمة والمترجمين اليوم لتفيدنا بأن الواقع كثيراً ما يشكو من أن مهنة الترجمة أصبحت مهنة من لا مهنة له، وأنها لكثير من الناس مهنة اقتضتها ظروف المعيشة، وأنها لفئات أخرى من العاملين محطة انتظار يترقب فيها الموظف الفرص خارجها لمغادرتها. كما أن واقع كثير من محترفيها يشهد بأنها مهنة لا تملك من المميزات ما يجعلها تجتذب الكفاءات وتحتفظ بها، ولا ترضي طموح الجادين منهم.

إن حال المهنة تدعو المحترفين والمهتمين إلى دراسة هذا الوضع، وتشخيص الواقع، والتفكير في إيجاد الحلول والبدائل من أجل النهوض بالمهنة ومحترفيها من المعاناة التي تعيشها لكي تلحق بركاب التنمية.

إن آثار ضعف مهنة الترجمة بشقيها التحريري والشفوي ليست مقصورة على المترجم ولا على المؤسسات التي تتصل أعمالها بالترجمة، بل هي قضية عامة تمس المجتمع بكامله، لأن هذا الضعف يعيق تطور فكر الاحتراف في هذه المهنة الخطيرة. وهنا تأتي أهمية التنمية البشرية والتدريب الاحترافي المتخصص في مجال الترجمة الذي يهدف إلى تطوير القدرات وتنمية المهارات وتعزيز أخلاقيات المهنة.

 لا شيء ـ فيما يبدو ـ أشد ولا أكبر تأثيراً على الوضع الراهن للترجمة من غياب المرجعية العلمية والمهنية. فمهنة الترجمة، إذا أريد لها أن تؤدي الدور المناط بها، يجب أن تستوفي احتياجاتها الأساسية، فضلاً عن العوامل المساعدة على تطوير المهنة وأصحابها، و يمكن تحقيق ذلك ـ فيما نرى ـ من خلال ورشة عمل، تعقد على هامش فعاليات إحدى الندوات أو المؤتمرات القادمة في السعودية المتخصصة في الترجمة، ويجمع هذا اللقاء بين أهل العلم والمعرفة في التخصص في الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، وأهل الخبرة والتجربة في الميدان في الداخل والخارج، وتوكل إليهم دراسة حال المهنة، وتقييم واقعها.

وتقديرنا أنه مما ينبغي لهذه الورشة المقترحة بحثه: أصول المهنة وشروطها، وضبط حركتها، وتحليل نشاطها وتقويم واقع التدريب المهني وتطوير مناهج تعليم الترجمة لدعم قطاع الترجمة وجعلها مصنعاً لتوطين العلم والتقنية.

فغني عن القول أن مهنة الترجمة تعاني من قلة الكفاءات (فمثلاً يستعان بمترجمين فوريين من الخارج لتغطية القمم والمؤتمرات والملتقيات، بسبب ندرة الكفاءات الوطنية المؤهلة في الترجمة الفورية)، وضعف النتاج المترجم (فجاء في دراسة علمية أن السعودية ترجمت 472 عنواناً في 502 كتاب خلال خمسين عاماً) وغياب فرص التنمية والتدريب بشكل عام، ومحدودية سلم التطور الوظيفي ضمن دائرة التخصص. ويواكب ذلك عدم وجود آلية للتطور الاحترافي المستقل عن التطور الوظيفي، مع قلة المغريات الجاذبة للكفاءات.

وعلى الرغم من أن هذه المشكلات ليست مستعصية في حد ذاتها، إلا إن تشخيصها، وتوفير الحلول والبدائل لها، والعمل على تنمية وتطوير وضع المهنة بشكل عام، ليس من مسؤولية أحد بعينه، لا في القطاع الخاص، ولا في القطاع العام وإنما مسؤولية مشتركة. فبالنسبة للمؤسسات الخاصة، وان كان بعضها يعاني من آثار ضعف المهنة، فإنها لا تستطيع بشكل منفرد تبني برامج موسعة في تنمية المحترفين، لتواكب أعمال السعودة الجارية، مما يلقي على عاتقها أعباء مالية وإدارية إضافية، ما لم تتوفر مؤشرات ملموسة للجدوى المنعكسة على المؤسسات. إن مشروع هيئة للترجمة تحتاج لقرار حكومي لتقديم الدعم اللازم لها وتحقيق استقلاليتها لضمان انطلاقتها ونجاحها.

إن الحاجة إلى الترجمة والمترجمين دائمة، بل متزايدة في قطاعات العمل في الدول العربية، ما استمرت التنمية والتواصل العلمي والتقني والحضاري، ونعتقد أن النتائج التي تخرج بها الورشة المقترحة، والتوصيات العلمية والعملية التي ترسم ملامح إستراتيجية وطنية للترجمة والتعريب، يمكن أن تتبناها الحكومة، وذلك ما سيسهم في تفعيل  ما ورد في «إعلان الرياض» الصادر عن مؤتمر القمة العربية المنعقدة يومي 28 و29 مارس (آذار) 2007، الذي أكد أهمية «تدشين حركة ترجمة واسعة من اللغة العربية وإليها، وتعزيز حضور اللغة العربية في جميع الميادين بما في ذلك وسائل الاتصال والإعلام والإنترنت وفي مجالات العلوم والتقنية».