قمة دمشق ولغة التلميح

TT

للعرب مبادرة للداخل تتمثل في الوصول إلى حل في لبنان، ولهم مبادرة أخرى للخارج لحل القضية الفلسطينية.

غريب أن يتوقع العرب أن مبادرتهم لحل القضية الفلسطينية، ستنجح في إقناع (الخارج) الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، رغم المتغيرات والعوامل التي تحكم هذه القضية، والتي ليست في يد العرب كلها، وهم (أي العرب) في الوقت ذاته لم ينجحوا حتى الآن في مبادرة يمسكون بكل أوراق اللعب فيها تقريبا، وهي المبادرة العربية لحل الأزمة اللبنانية.

الجامعة العربية كانت تأمل في التوصل إلى اختيار العماد ميشيل سليمان رئيسا للبنان قبل انعقاد قمة دمشق، ولم يتحقق المأمول. فكيف للعرب إن فشلت مبادرتهم في (الداخل العربي) أن يتوقعوا نجاح مبادرتهم في (الخارج الغربي)؟ كيف لهم إذا فشلوا في إقناع قومهم وبني جلدتهم وفضائهم السياسي المحكوم بقبول مبادرة الحل في لبنان، أن ينجحوا في إقناع من يختلفون معه في الثقافة واللغة والعرق والمصالح الاستراتيجية بقبول المبادرة العربية بشأن فلسطين؟

أسباب فشل المبادرة العربية تجاه الصراع العربي الاسرائيلي ربما هي ذاتها أسباب الفشل في المبادرة العربية تجاه لبنان. وأولى هذه الأسباب هي عدم القدرة على تسمية الأسماء بمسمياتها، وثانيها التوجه بالمبادرة للعنوان الغلط، وثالثها إغفال قدرة عامل الزمن على تغيير موازين القوى. لتسويق مبادرتهم تجاه الصراع العربي الإسرائيلي ذهب العرب إلى الصين وأوروبا واليابان، ولم يتوجهوا إلى إسرائيل التي هي المستهدفة من المبادرة. بعد أن تدارك العرب الخطأ في قمة الرياض بعد أربع سنوات قرروا في خجل أن يتوجهوا لإسرائيل من خلال الدول التي قامت بسلام مع إسرائيل. إسرائيل ليست مهتمة بالدول التي تقيم سلاما معها، اسرائيل تهتم بمن ليس لها سلام معهم. ولما دخلنا في العملية بعد ست سنوات من إطلاق المبادرة، غير عامل الزمن ميزان القوة، فزادت المستوطنات وسيطرت «حماس» على غزة وانقلبت الأوضاع. ما حدث مع المبادرة الأولى تجاه إسرائيل يحدث اليوم في المبادرة الثانية تجاه لبنان.

بنفس الطريقة نتحدث عن لبنان بالتلميح لا بالتصريح، غمزا ولمزا، من دون مواجهة للحقائق القوة، ومن دون مراعاة لعامل الزمن. بداية، حالة لبنان ليست فريدة في نوعها في العالم. فلو نظرنا إلى تايوان وهي الدولة الليبرالية الرأسمالية الحرة الملتصقة بنظام مغلق إلى جوارها وهو الصين. لأدركنا أنه كان بالإمكان ان يكون لبنان تايوان العرب. النظام الصيني المغلق لم يدخل في مجابهة مع تايوان، وإنما استخدمها كرئة يتنفس منها. لبنان أيضا بانفتاحه يمثل رئة لسورية، الاختلاف بين الحالتين هو التعددية الطائفية في لبنان. ليس هناك ما يمنع من أن صيغة علاقة لبنان بسورية يمكن أن تكون أشبه بعلاقة الصين بتايوان. علاقة نجح الصينيون والتايوانيون في إدارتها، رغم أن رغبة الصين في السيطرة على تايوان وادعاءاتها بأنها جزء من الصين كانت أشد وأقوى من أي ادعاءات سورية تجاه لبنان. النقطة هنا، إن وضع لبنان ليس الحالة الاستثنائية لكي يستعصي على الحل، هناك عشرات الحالات الخاصة بعلاقة دولة صغيرة بجوار أكبر، لكن الأمور تسير بشكل أكثر تنظيما وأكثر عقلانية.

لا ضير من اعتراف عربي بأن لبنان يمثل عمقا استراتيجيا لسورية، كما أنه لا ضير من اعتراف سوري بأن لبنان، العمق الاستراتيجي السوري، ليس عمقا استراتيجيا لإيران.

لا يمكن للمبادرة العربية لحل أزمة لبنان أن تؤخذ بجدية دونما قوة تقف خلفها. القرارات الخاصة بلبنان هي قرارات دولية لا عربية، والقوة الموجودة في لبنان ممثلة في اليونيفيل هي قوة دولية لا قوة عربية. رغم كل احترامنا لسيادة لبنان على ترابه الوطني، إلا أن وضعا هشا يستلزم وجود قوة عربية تساعد هذا البلد على التعافي السياسي. غياب العرب عن لبنان دعوة لغير العرب إلى التدخل في شؤونه. في غياب العرب، رأينا الوجود الإسرائيلي من خلال الاحتلال والاجتياحات الموسمية، وكذلك رأينا النفوذ الإيراني. لا يمكن أن يكون للعرب دور في لبنان من دون وجود قوة عربية على الأرض اللبنانية. كيف يتوقع من لا جنود له على الأرض أن تكون له أدوات ترهيب أو ترغيب؟ إلا إذا صدق بأن قوة الكلام على الفضائيات وفي الجلسات الدبلوماسية أقوى من القوة الفعلية.. وهذا مناف لأبسط قوانين السياسة. لبنان اليوم مؤهل أن يكون عراقا آخر بما لذلك من تبعات على المنطقة برمتها.

عندما خرجت سورية من لبنان، ظن كثير من العرب واللبنانيين أن المجتمع اللبناني تعافى سياسيا، بحيث أنه قادر على إدارة شؤونه. كل ما رأيناه منذ خروج سورية حتى اليوم مؤشرات على أن اللبنانيين غير قادرين بعد على إدارة بلدهم. هناك المقولة المكررة بأن سورية خرجت لكنها ما زالت تلعب في الوضع الداخلي اللبناني عن طريق حلفائها، وهذا أيضا يؤكد ما ذكرته سلفا بأن النظام الداخلي ما زال ضعيفا. فأولى مؤشرات النظام الوطني المتماسك، أن تكون لديه مناعة ضد التدخلات الخارجية. إذن، حجة التدخل السوري لا تنفي مقولتي بل تؤكدها.

حتى الآن، وللمراقب من الخارج، يبدو سلوك العرب تجاه الأزمة في لبنان ساذجا. لا بد من الاعتراف بأن هناك دولتين تملكان الحل والعقد في لبنان وهما سورية وإسرائيل. دولتان جارتان لكل منهما القدرة والقوة والعتاد والجيش أن تحتل لبنان برمته إذا ما أرادت. هاتان هما الدولتان اللتان تستطيعان أن تحلا الأمر أو تعقداه في لبنان، ما عدا ذلك فكلها درجات تأثير تنتهي عند حدود الكلام. حتى إيران يظل دورها محدودا إن لم يمر خلال الأراضي السورية. سورية تستطيع تجميد «حزب الله»، رغم قوته، وكذلك إسرائيل تستطيع أن تحجم قدرات «حزب الله» رغم فشلها في الحرب الأخيرة. أما ما عدا الدور السوري والدور الإسرائيلي، فكلها أدوار جانبية بما فيها دور الولايات المتحدة. هذان هما الدوران اللذان على المبادرة العربية أن تأخذهما في عين الاعتبار.

إذن، ولكي يصل العرب إلى حل في لبنان لا بد من الحديث مع سورية مباشرة وبجدية، وظني أن قمة دمشق مناسبة لحديث جاد وصريح. للدولتين العربيتين الكبيرتين، مصر والسعودية، القدرة والأدوات في التأثير على الموقفين السوري والإسرائيلي تجاه لبنان، كما أن لديهما أيضا القدرة والأدوات على التأثير على الموقفين السوري والإسرائيلي تجاه عملية السلام. ورغم أهمية التجمع العربي في دمشق، إلا أنني ممن يفضلون قمة مصغرة تنجز شيئا ملموسا ومحددا على قمة احتفالية قد لا يسمح صخبها بحديث عملي جاد. لذا أرى أنه لا بد من قمة داخل القمة، قمة سورية مصرية سعودية.

هذه القمة المصغرة لا بد وأن تأخذ في الاعتبار بأن لبنان في طريقه لأن يصبح دولة فاشلة، إذا ما تجاهلنا عنصر الزمن، وتجاهلنا معه تغير الأوضاع على الأرض من حيث اختلال موازين القوة. ما حدث للمبادرة العربية فيما يخص الصراع العربي الإسرائيلي، يجب ألا يتكرر في المبادرة العربية حول الأزمة اللبنانية. لا بد من التوجه إلى العنوان الصحيح، لا بد من الحديث مع سورية بوضوح.. نسمع عن خلاف سعودي ـ سوري حول لبنان، وعن خلاف مصري ـ سوري حول لبنان، ولا نعرف طبيعة هذا الخلاف. آن أوان المصارحة، الموقف لم يعد يحتمل لغة التلميح.