النص يخرج على نفسه

TT

شاهدت فيلما أميركيا ينتصر فيه رجل المافيا ومحاموه على القانون ومحامي الدولة. يصور الفيلم رجال المافيا في ولاية نيوجرسي على انهم حثالات المجتمع، يعيشون في الجريمة والابتزاز، ويصور محاميهم على أنهم شركاء في الجريمة المنظمة وليسوا مجرد مدافعين عن أبطالها. ومع ذلك ينتصر الأشرار في نهاية الفيلم. وربما كان هذا هو الواقع في أي حال. لكن مهمة الفن لم تكن أبدا الانحطاط الى مستوى الحقيقة. الفن هو الارتقاء بالناس وليس الهبوط عليهم.

مدرسة «الواقعية» لم يخترعها الاميركيون. بدأتها السينما الايطالية في الخمسينات ردا على التزويق والتنميق في السينما الاميركية. لكن الواقعية الايطالية نسخت الحياة من دون ان تبشر بالجريمة او ان تبررها أمام القانون. والذي يتابع الرواية العربية الحديثة يرى أنها فقدت أو خسرت العامل الأخلاقي. ولست أقصد إطلاقا الخطابيات الكلاسيكية ومواضيع الانشاء المطولة، وانما الاخلاقيات كعامل وموقف إنساني. كان كل شكسبير «أخلاقيا» وكل تولستوي وكل دوستويفسكي ولم يقلل ذلك إطلاقا من جماليات وروعة الأعمال العبقرية التي تركوها لجميع الأجيال الآتية. فسوف يظل شكسبير «حديثا» الى خمسة قرون أخرى، ربما بسبب النهايات التي اختارها لهاملت وماكبث، لقد خالف أوديب وهاملت وماكبث قوانين الطبيعة الأخلاقية ولقوا النهايات المستحقة.

تفلتت الرواية العربية بعد نجيب محفوظ من الرمزيات الأخلاقية. واتخذ السرد في معظمه صيغة التحرر من الاحكام الادبية والمعنوية السائدة. ولم يعد مهماً في الرواية الوقوف الى جانب المظلوم او المضطهد او ذائق اللوعات. وفي الماضي كانت الرواية تكتب من أجل الدفاع عن المسحوقين والمنبوذين ومساكين المجتمع. وما عاد هذا واردا، بل صارت هذه مشاعر «بالية» يخجل بها الروائيون الجدد، كأنما الحداثة تقتضي الخروج من الانسان، او كأنما التجديد يعني الانتقال من جانب المظلوم الى جانب المنكّل.

ليس في المسألة تعميم بالطبع، عندما نقول «ما بعد نجيب محفوظ». ثمة أمثلة كثيرة وباهرة لم تحد عن خطها الانساني الارتقائي برغم انغماسها في الحداثة الروائية. يخطر دائما وأولا الطيب صالح ويخطر جمال الغيطاني وصنع الله ابراهيم. وقافلة غير قليلة.