حال الأمة أم حال العالم؟

TT

قبل أسبوع دعيت إلى إلقاء محاضرة عن «حال الأمة قبل القمة» المقرر انعقادها بدمشق في نهاية الشهر الحالي. تحدث العديد من زملائي عن الصعوبات التي تواجه الموقف العربي، والمسؤوليات الملقاة على عاتقه، وربما كنتُ إلى حدّ ما أكثر تفاؤلاً، لأنني حاولت أن أقرأ في العمق أين تتجه نيران المحرقة الإسرائيلية والأمريكية الجارية في منطقتنا، وما هي الحالة الشعبية لهذه الأمور، التي بطبيعة الحال سوف تحددّ توجهاتها المستقبلية. ولكن وبعد أقلّ من أسبوع من مشاركتي بهذه الندوة استوقفني حال العالم الذي لا أراه أحسن حالاً من حال الأمة العربية، وإن يكن يرتب علينا مسؤوليات أكثر جدّية وعواقب أشد جسامة. أول ما صعقني في بداية هذا الأسبوع التحوّل النوعي في اللغة التي استخدمها المعتدون على أرضنا ومقدساتنا، والأخطر هو نقل وسائل الإعلام العربية لهذه اللغة كما هي، مع أن العبارة شكلت نقلة نوعية في تجرّؤ المعتدي على المعتدى عليه. أولم نقرأ جميعاً في الصحف ونشاهد على الشريط الإخباري «المصادقة على خطة بناء 2200 وحدة سكنية في شرق القدس» وفي اللغة الانكليزية كان الخبر أن إسرائيل قررت بناء «homes» في الضفة الغربية، فلم يُشر إلى هذه البيوت بأنها مستعمرات أو مستوطنات بل هي «مساكن»! وما الخطأ في ذلك؟! إذا كان الاستيطان يشكّل مشكلة بالنسبة لإسرائيل أمام العالم، حيث تدعو المنظمات الدولية إسرائيل لوقف الاستيطان، فإنّ ما على إسرائيل أن تفعله هو أن تسقط كلمة «الاستيطان» من قاموس الإعلام العالمي، ويتبعه الإعلام العربي، وأن تستبدلها ببناء «مساكن» أو «بيوت» أو «وحدات سكنية»، ويلحق بها الإعلام العربي برمته ولا يذكر أحد بعد ذلك ما إذا كان هذا الاستيطان شرعياً أم غير شرعي، بل يتزامن هذا مع تأكيد أولمرت أن الاستيطان في القدس وحولها شرعي، وأن كل ما يمكن أن يناقشوه هو النقاط الاستيطانية العشوائية التي تبقى غير شرعية إلى أن تتحول إلى مستعمرات كبرى، ليصبح حينئذ حتى مجرد مناقشة شرعيتها أمر غير قانوني. لم لا إذا كانت المستشارة الألمانية، في التوقيت ذاته في إسرائيل، تعتبر أنّ «ما يهدّد إسرائيل يهددنا» وتعبّر عن «شعور ألمانيا بالعار بسبب المحرقة»، متناسية المحرقة التي ترتكبها إسرائيل منذ ستين عاماً، والمتواصلة على بعد نظر من حيث كانت تقف! مع ذلك يحتج عليها أعضاء كنيست إسرائيليون لأنها ألمانية وتحدثت إليهم بالألمانية! وكذلك كان وضع المرشح الجمهوري جون ماكين الذي زار محرقة العراقيين على أيدي الأمريكيين، حيث سقط لحد اليوم أكثر من مليون مدني عراقي، ليعرج على ما أصبح طقساً مقدساً لتقديم الطاعة لإسرائيل وللوبي اليهودي في واشنطن، حيث زار متحف المحرقة، ووضع القلنسوة ثم أطلق تصريحه أنه «يؤيد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل»، ويؤكد «دعمه للاعتداءات الاسرائيلية على غزة»، وهو طقس يفرضه اللوبي الممول للحملات الانتخابية على كل الساسة الأمريكيين الطامحين للرئاسة. كلّ هذا والذكرى الخامسة للاحتلال الدموي الأمريكي للعراق تمر على مجزرة قتل مليون مدني عراقي ونيّف، التي شملت تصفية أبرز أعلام الفكر والعلوم الثقافة والأدب والفنون والطبّ، وهي مجزرة تتقزم أمامها وحشية مجازر حلبجة والأنفال، فهي ترتكبها دولة ما زالت ترفع لواء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. بعد كلّ هذه الدماء العراقية المسفوكة ظلماً، يصرّح الرئيس بوش متبجحاً بمحرقته قائلاً: إن المعركة في العراق «نبيلة وعادلة وستنتهي بالنصر». ويصرّح نائبه ديك تشيني بأن القوات الأمريكية «ستبقى في العراق ولو تعب الآخرون». والترجمة العملية لتصريحه هي: أن إدارة بوش مصممة على «استمرار المحرقة في العراق لحصد المزيد من المدنيين». ورداً على المظاهرات الشعبية في الولايات المتحدة وأوربا ضد الحرب على العراق، يضيف تشيني بأن «الاستراتيجية الأمريكية في العراق لا تخضع للاستطلاعات الشعبية»؟ وهذا هو جوهر الديمقراطية الغربية الذي تلتقي فيه مع جوهر النظام الاستبدادي. وقد برهنت سياسة ساركوزي التي وضعت نفسها في خدمة إسرائيل أنها لا تعبّر عن نبض الشعب الفرنسي الذي سارع للتعبير عن رفضه لسياسات ساركوزي الخطيرة في دعمه الصارخ للعدوان والاحتلال الاسرائيليين على الشعب الفلسطيني، ولربما عبّر تشيني عمّا يفكر به ساركوزي بأن «سياسته لا تخضع للاستطلاعات الشعبية».

كل هذا يري أن حال العالم اليوم يشهد انفصاماً حقيقياً بين ما يفعله بعض الحكام المتواطئين مع جريمة العصر الجارية منذ سنين في فلسطين والعراق ولبنان، وامتدت اليوم إلى السودان والصومال، وبين التوجهات الإنسانية لشعوبهم التي انتخبتهم. وفي حال ميركل فقد بادرت أصوات شعبية ورسمية ألمانية لتقول إن ما فعلته ميركل من إهمال للمحرقة الجارية في غزة، وهي على مقربة أمتار منها، يساوي إلى حد كبير المشاركة فيها. هل يقف العالم اليوم من جديد أمام حفنة من الطغاة إذاً؟ هل نحن أمام مجموعة من الحكام لا تقيم وزناً «لرأي شعوبها»؟ هل الديمقراطية الغربية هي فعلاً لا تعترف بأهمية حياة وأمن ومستقبل الشعوب الأخرى؟ كيف وصل إلى الحكم هؤلاء الطغاة الذين يرتكبون جرائم الحرب من دون رادع، والذين لا يكترثون وعلناً برأي شعوبهم في مجتمعات ديمقراطية؟ هل نشهد في العمق موقفاً عنصرياًَ من العرب يبرر المحرقة الجارية في العراق وغزة على مرأى ومسمع العالم؟ وكيف تقبل الشعوب الغربية المتحضرة التي حاصرت وقاطعت نظام الأبارثيد في جنوب أفريقيا إلى أن انهار مثل هذه المجازر الوحشية؟ لماذا لا تتحرك هذه الشعوب المحبة للحرية بالطريقة والأسلوب ذاته الذي يقود في النهاية إلى إيقاف المحرقة الدموية اليومية، التي يرتكبها الاحتلال العسكري للعراق وفلسطين، ووضع حدّ لنظام الأبارثيد الإسرائيلي في فلسطين؟

علّ جزءاً من الأجوبة على هذه الأسئلة يكمن في التغيير الذي طرأ على عصرنا هذا، حيث يعبّر الغاضبون والناقمون على الجرائم التي ترتكب عن غضبهم في مواقع الكترونية، فيفرغون جام غضبهم ويشعرون بأن أنفسهم قد تطهرت من الشعور بالذنب والمسؤولية تجاه ما يرتكبه حكامهم باسمهم، بينما خرج جيل من السبعينيات وأوائل الثمانينيات إلى الشوارع وقاد الاحتجاجات والمظاهرات من أجل إيقاف الحرب في فيتنام، وتحرير شعب جنوب أفريقيا.

كما يكمن جزء من الجواب في المشاعر العنصرية التي أججتها الدوائر الصهيونية بعد الحادي عشر من أيلول ضد العرب في الغرب، لأن بعضهم يعتقد أن العرب يستحقون ما يرتكب ضدهم من جرائم بسبب «القاعدة» التي «تخطط وتنوي دائماً الى النيل من الغرب»، كما أثبتت أجندة المخابرات التي صنعتهم ودربتهم وتمولهم حتى الآن. والأفضل كما يقول بوش دائماً هو «قتلهم من أجل منعهم من تنفيذ خططهم ونواياهم». وهناك أيضا التحول الجذري الذي حلّ بالإعلام العالمي، الذي وقع تحت ضغوط المخابرات الغربية وسجونها السرية فأصبح إعلاما مروجا للشائعات المخابراتية، يكرر ما يقوله الناطق الرسمي باسم «الخارجية الإسرائيلية»، وليعتمد في معظمه على بعض المصادر المحدودة من وكالات الأنباء الكبرى التي أخذت الاعتبارات السياسية تتحكم بها بشكل متزايد، والتي تبث الأخبار «المقولبة» لجميع وسائل الإعلام، فتتلقفها هذه الوسائل بشكل مرعب وترددّها كالببغاء لتصيغ الرأي العام وفق ما تريده الإدارات الحاكمة. وفي هذا الجزء من الجواب قد يكون كتاب الصحفي البريطاني نيك دافيس، الذي يحمل عنوان «أخبار الأرض المسطحة»، والذي هو بحث عن الصحافة البريطانية، معبراً في جوهره عمّا اعترى الصحافة العالمية في السنوات العشر الأخيرة. فبعد مراقبة إصدارات الصحف البريطانية وتحليل آلاف المقالات من أخبار المملكة المتحدة، فقد اكتشف الباحثون المشاركون في الكتاب أن 60% من هذه المقالات المنشورة في الصحف المحترمة تألفت كلها، أو القسم الأكبر منها، من الأخبار التي تؤمنها وكالات الكترونية أو بيانات صحفية. و20% إضافية تحوي عناصر واضحة من الأخبار المستقاة الكترونياً و/أو البيانات الصحفية التي أضيفت إليها أخبار أخرى إلى حدّ ما. بالنسبة إلى 8 بالمئة من المقالات لم يتمكنوا من التأكد من مصادرها، ما يترك فقط 12 بالمئة من المقالات استطاع الباحثون أن يقولوا إن أخبارها أتى بها الصحفيون أنفسهم. هذا في بريطانيا حيث لا وجود للحرب والاحتلال، ولا يتطلب الأمر أن يغامر الصحفي بحياته للوصول إلى موقع الحدث والتحقق منه. أما إذا قارب مثل هذا البحث الوضع في العراق وفلسطين قد تكون النتائج أقل من 1 بالمئة من الأخبار يأتي بها الصحفيون أنفسهم، وذلك لخطورة الوضع ولتعمد قوات الاحتلال الأمريكية والإسرائيلية في الأعوام الأخيرة إرهاب الصحفيين وقتلهم ومنعهم من الوصول إلى مكان الجريمة.

المشكلة إذاً اليوم، أو جزء كبير منها، هي أن الطغاة الذين يشنون الحروب ويتسببون في المجازر المليونية ضد المدنيين العرب في واد سحيق من الجريمة، تقبع معهم أدواتهم الإعلامية التي تبث تيارات مستمرة ومكثفة من الأخبار، أما الشعوب فهي إما ضحية المجازر أو مغلوبة على أمرها لا يصلها من الحقيقة إلا النزر اليسير، وهي لا تعرف من ُيقتل أو يجوّع إلا بأذن من الطغاة، ولا يسمع العالم احتجاجاتها، من دون أن يسمح لأصواتها باختراق الحواجز الصمّاء التي وضعت لهذا الغرض. حال العالم اليوم يلقي بظلاله الثقيلة النابعة من هذه التحوّلات الخطيرة على حال الأمة قبل القمة وخلالها وبعدها.

www.bouthainashaaban.com