معرض الكتاب في باريس: استفزاز أم فضيحة؟

TT

منذ أسابيع والناس مشغولة بقصة معرض الكتاب في باريس، بسبب دعوة اسرائيل إليه هذا العام كضيفة شرف بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسها. وقد أثار ذلك عاصفة من الاحتجاجات داخل فرنسا، وفي العالم العربي ككل. وزاد الطين بلة ان أحداث غزة الدموية حصلت قبيل افتتاح المعرض بقليل. وهذا ما لم يكن يتوقعه منظموه الفرنسيون عندما خططوا له قبل سنة وقرروا دعوة اسرائيل. وهم يقولون بأن دول المغرب العربي لم تعترض آنذاك على الفكرة. فلماذا انسحبت الآن من المعرض وقاطعته؟ ونسوا ان عدوان الجيش الاسرائيلي على غزة، قلب كل المعادلات والمعطيات. فمن هو العربي الذي يتجرأ بعد الآن على المشاركة في معرض كهذا، والاحتفال بتأسيس السيدة المعظمة: دولة اسرائيل؟!

لا أجد أبلغ في الرد على هذا الاستفزاز غير المسبوق من كلام هارون شابتاي، أحد كبار شعراء اسرائيل المعاصرين. يقول في رده على من استغربوا مقاطعته لوفد الأدباء الذاهب إلى باريس: «لا أعتقد ان دولة تحتل الآخرين، وترتكب يومياً جرائم ضد المدنيين، تستحق ان تكون ضيفة الشرف على أي معرض كتب في العالم.. » هذا الكلام يشرف صاحبه. ولكن المشكلة هي أن اسرائيل ليست مدعوة فقط كضيفة شرف على معرض باريس المنعقد حالياً (13 ـ 19) مارس، وانما ايضاً على معرض تورين بايطاليا الذي سينعقد في بدايات شهر مايو (أيار) المقبل. وهناك أيضاً أثارت الفكرة عــاصفة من الاحتجاجات، وانقسم المثقفون الايطاليون على أنفسهم بين مؤيد ومعارض.

بالأمس القريب كنت في جامعة قابس بجنوب تونس لحضور ندوة عن الترجمة. وعلى هامشها قال لي الشاعر الصديق والأستاذ الجامعي العراقي شاكر اللعيبي بأنهم دعوه إلى مؤتمر تورين، وهو متردد في أن يحضر أو لا يحضر، ولكنه قرر اخيراً الحضور. وشجعته على ذلك قائلاً: اذهب واحضر واشرح لهم وجهة النظر الفلسطينية والعربية. فحتى ولو لم تقنع إلا عشرة من الإيطاليين الحاضرين لكان أفضل. والواقع ان سياسة الكرسي الفارغة لا تجدي نفعاً وترتد بالضرر على أصحابها. ثم من يستطيع ان يقاطع تورين وبالأخص باريس؟ باريس هي اكبر مركز ثقافي في العالم. عنها صدرت كل الحركات الفنية والأدبية والفلسفية الكبرى من السوريالية الى الوجودية الى البنيوية الى الحداثة وما بعد الحداثة.. وبالتالي فمن العبــث ان نستطيع القــول بأننا قادرون على مقاطعة باريس ثقافيا.

وبالتالي فالمشاركة مع الاحتجاج على اختيار اسرائيل كضيفة شرف، هو الموقف الأفضل. وهذا ما سيفعله علاء الاسواني على ما يبدو، حيث سيرفع صور الاطفال الذين سقطوا في غزة.

وحتى طارق رمضان، فإنه يدعو الى حضور نقدي او احتجاجي في باريس، ولكن الى مقاطعة كاملة لمعرض تورين. لماذا؟ لأن الأدب الاسرائيلي هو المحتفى به في فرنسا بالدرجة الاولى أو قل هو ضيف الشرف في حين ان دولة اسرائيل هي المدعوة فعلا الى معرض تورين.. نقول ذلك، وبخاصة ان الوفد الاسرائيلي يضم اديبين كبيرين ذوي شهرة عالمية هما: عاموس اوز ودافيد غروسمان.

بالامس دعاني القسم العربي في القناة التلفزيونية الفرنسية الرابعة والعشرين، لمناقشة صريحة ومباشرة حول الموضوع. ووجدت نفسي لأول مرة امام سيدة اسرائيلية محترمة تدعى ياعيل لرر. وعرفت عندئذ انها هي رئيسة دار النشر الإسرائيلية التي تترجم الأدب العربي الحديث الى اللغة العبرية، والتي تحمل الاسم الجميل: الاندلس. وقد اصدرت حتى الآن عدة ترجمات لأشعار محمود درويش وروايات محمد شكري وهدى بركات، ونصوص جبرا ابراهيم جبرا وسواهم.

وفوجئت بأنها اكثر غضبا على المعرض مني أنا!.. وقلت بيني وبين نفسي: لو أن ربع الاسرائيليين او حتى عشرهم من نوعية هذه السيدة الكريمة لانتهت مشكلة الصراع العربي ـ الاسرائيلي فورا، ولتحقق السلام وارتحنا من اكبر كارثة في التاريخ!

مهما يكن من امر، فإن معرض باريس فجر كل التناقضات العالمية دفعة واحدة، وليس فقط العربية والاسرائيلية. وأعتقد شخصيا ان القضية الفلسطينية دفعت باهظا ثمن (11) سبتمبر و(11) مدريد و(7) يوليو لندن.. فلولا هذه التفجيرات الاجرامية، التي اصابت المدنيين العزل بالمئات والآلاف، لما تجرأ الغرب على الاحتفال بالذكرى الستين لقيام دولة اسرائيل. وبالمناسبة أقول لإخواني العرب: لا تحتفلوا كثيرا بالعملية التي أودت بحياة ثمانية تلامذة صغار في مدرسة يهودية بالقدس. فهذا ايضا يصدم الوعي الغربي في الصميم، ويزيد من كرهه لنا، ويشوه قضية الحق والعدل.