قمة في المبدئية.. وأمثولة في العطاء والوفاء

TT

عندما نسمع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يقول في خطابه أمام مجلس الشورى يوم السبت الماضي 15/3/2008، ما لم نسمعه من حاكم عربي حول نقد الذات ومحاسبة النفس، فإن ذلك يجعلنا نستحضر كلاماً بالروحية والمفردات نفسها سمعناه منه في خطابه يوم الأربعاء 28 مارس (آذار) 2007 الذي افتتح به ترؤسه القمة العربية الدورية في الرياض وهي السابعة في مسلسل القمم الدورية بتاريخ محدد هو 28 مارس من كل سنة بدءاً من الأولى في عمان (2001) ثم بيروت (2002) ثم شرم الشيخ (استثناء أول مارس 2003) ثم الجزائر (استثناء 22 مارس) ثم الخرطوم في الموعد المحدد، والحادية والثلاثين في مسلسل القمم العربية بدءاً بالأولى التي استضافها الملك فاروق في مزرعته في «أنشاص» عام 1946.

في القمة الدورية السابعة فاجأ الملك عبد الله بن عبد العزيز إخوانه الملوك والرؤساء بكلام يندرج في نقد الذات العربية، الأمر الذي جعل كلا منهم يعتبر الكلام موجهاً له بالذات كما هو موجّه لقائله. ومن جملة ما قاله الملك عبد الله وفي صيغة التساؤل بعدما أشار إلى الأوضاع العامة في الأمة، وبالذات ما هو حاصل في العراق وفلسطين والسودان ولبنان والصومال: «ماذا فعلْنا طيلة هذه السنين لحل كل ذلك؟ لا أريد أن أُلقي اللوم على الجامعة العربية، فالجامعة كيان يعكس أوضاعنا التي يراها بدقة. إن اللوم الحقيقي يقع علينا نحن قادة الأمة العربية. فخلافاتنا الدائمة، ورفضُنا الأخذ بأسباب الوحدة، كل هذا جعل الأمة تفقد الثقة في مصداقيتنا وتفقد الأمل في يومها وغدها. إن الفرقة ليست قدرَنا وإن التخلف ليس مصيرنا المحتوم فقد منحنا الله جلت قدرته الكرامة وخصَّنا بعقول تستطيع التفرقة بين الحق والباطل وضمائر تميز الخير من الشر، ولا ينقصنا إلاَّ ان نطهِّر عقولنا من المخاوف والتوجس، فلا يحمل الأخ لأخيه سوى المحبة والمودة ولا يتمنى له إلاَّ الخير...». ثم ينهي خطابه برسم معالم الطريق والحل من أجل الخلاص بالقول: «إن أول خطوة في طريق الخلاص هي أن نستعيد الثقة في أنفسنا وفي بعضنا البعض فإذا عادت الثقة عادت معها المصداقية، وإذا عادت المصداقية هبت رياح الأمل على الأمة، وعندها لن نسمح لقوى من خارج المنطقة أن ترسم مستقبل المنطقة، ولن يرتفع على أرض العرب سوى عَلَم العروبة...».

مثل هذا الكلام لم نسمعه من حاكم عربي مِن قبل ولم نسمعه من بعد، إلى أن جاءنا القائل نفسه الملك عبد الله بن عبد العزيز، الرمز المضيء للمبدئية في دنيانا العاصفة العربية والإسلامية، يسجل مرة أخرى على الملأ وتحت عنوان ما يجوز اعتباره كما في المرة الماضية «اللهم إني قد بلَّغت.. اللهم فاشهد» أو «اللهم إني قد نبَّهت وانتقدتُ النفس.. اللهم فاشهد».

وفي كلامه الجديد نسمع ونقرأ الآتي: «ان المسؤولية أمانة لا مزايدة فيها ولا مكابرة عليها، فبها ـ بعد الله ـ نصون حريتنا ونحدد معالمها. ويشهد الله تعالى أنني ما ترددتُ يوماً في توجيه النقد الصادق لنفسي إلى حد القسوة المرهقة. كل ذلك خشية من أمانة أحملها هي قدَري وهي مسؤوليتي أمام الله ـ جل جلاله ـ ولكن رحمته واسعة فمنها أستمد العزم على رؤية نفسي وأعماقها.. تلك النفس القادرة على توجيه النقد العنيف الهادف قادرة ـ بإذن الله ـ أن تجعل من ذلك قوة تُسقط باطلا وتُعلي حقاً...».

جاء هذا الكلام الذي سمعناه من الملك عبد الله بن عبد العزيز مثل حبات من دموع السماء، ترطّب بعض الشيء جفاف النفوس العربية والإسلامية التي شارفت على التيبس من كثرة الإحباط المستشري في هذه النفوس، خصوصاً وأن أهل القرار العربي والإسلامي لم يأخذوا كما يجب بما سمعوه بكل شفافية وصراحة من مضيفهم عندما استضاف قمتهم في مثل هذا الشهر من العام الماضي. وجاء هذا الكلام بعدما كنا احتفلنا لمجرد انتهاء مشاركتنا في الدورة الثالثة والعشرين (من الأربعاء 5 مارس (آذار) 2008 إلى 10 منه) لـ«مهرجان الثقافة والتراث» المعروف اختصاراً بـ «مهرجان الجنادرية»، مع المحتفلين يوم الأحد 9 مارس في قاعة الأمير سلطان بن عبد العزيز في «مركز الفيصلية» بتقديم «جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام» إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز، وقول ولي العهد الأمير سلطان: «إنها للدور الريادي لخادم الحرمين في خدمة الإسلام والمسلمين، وهو أهل لذلك عملا وقولا».

وكان الملك عوَّض في اليوم الأول لـ«الجنادرية 23» الغياب الأول للشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري الذي كان خير متابع للفكرة التي أرادها الملك عبد الله قبل ثلاث وعشرين سنة مَلْمحاً فكرياً وثقافياً وتراثياً يسهر عليه الحرس الوطني، وعلى نحو ما يقوله ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز «إن المهرجان الوطني للتراث والثقافة هو من بركات الله سبحانه وتعالى ثم بركات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي وضع اللبنات الأولى لهذا الحدث الثقافي والتراثي الفريد وأحاطه برعايته حتى أصبح من أكبر وأهم المهرجانات الثقافية على الساحة الإقليمية والدولية. ولقد أكسبت رعاية سمو سيدي خادم الحرمين الشريفين للمهرجان زخماً كبيراً وقادت فعالياته لتحقيق أهدافها في التعريف بتراث الآباء والأجداد والحفاظ عليه، كما أسهمت في إثراء فعالياته الثقافية والانفتاح على الثقافات الأخرى..».

جاء التعويض للغياب الأول للشيخ عبد العزيز رحمة الله عليه من خلال لفتة تكريمية تنسجم مع واحدة من شمائل كثيرة تتسم بها شخصية الملك عبد الله ونفسه وهي «القمة في المبدئية والأمثولة في العطاء والوفاء». المبدئية في اتخاذ الموقف والتمسك بالثوابت والعطاء للدين وللوطن والشعب، والوفاء لمن واكب مسيرته على مدى نصف قرن من الإخلاص والحرص والابتكار مثل الشيخ أبو عبد المحسن الذي منحه الملك وشاح الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى ومثل رجل الأعمال محمد جميل الذي بات عنقه يعتز بوسام الملك عبد العزيز. وإذا كانت لحظة وجدانية لا مثيل لها غمرت نفوسنا ونحن نرى كبير الأبناء الشيخ عبد المحسن يتسلم من الملك الوشاح، الذي على حد ما نعرفه يُمنح لملوك ورؤساء الدول فقط، ويعبِّر بكلام فيه الكثير من مفردات والده الشيخ عبد العزيز وبالذات عندما كان يحدِّثنا عن الملك عبد الله ماضياً وحاضراً، عن الامتنان لهذا التكريم، فإن رؤيتنا للملك يضع في عنق رجل الأعمال محمد بن عبد اللطيف جميل وسام الملك عبد العزيز أفضت بنا إلى التأمل في هذا الحرص من الملك على مباغتة المجتمع السعودي بكل مفاصله بلفتات ومبادرات تنسجم كل الانسجام مع صياغته المتأنية لهذا المجتمع، وبحيث يعطي كل صاحب دور إيجابي حقه في التكريم في حياته.. أو ما بعد الرحيل كالذي حدث بالنسبة إلى تكريم الشيخ عبد العزيز التويجري الذي كان الملك سيتبادل معه المشاعر الوجدانية لو أن المانح يزِّين صدر «شيخ الجنادرية» أبو عبد المحسن بالوشاح وهو واقف أمامه. وعندما نقرأ كلام الأمير متعب بن عبد الله بن عبد العزيز نائب رئيس الحرس الوطني المساعد للشؤون العسكرية ونائب رئيس اللجنة العليا لـ«مهرجان الجنادرية» لمناسبة التكريم، فإننا نرى في هذا الكلام الحيثيات لمنح الشيخ أبو عبد المحسن وشاح الملك عبد العزيز أي الوسام الأعلى في الدولة. ومما قاله الأمير متعب «إن المهرجان لهذا العام يتشرف بأن يكرِّم واحداً من الشخصيات الاستثنائية في هذا الوطن، أعطى بدون حدود وعمل من دون كلل. انه معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري رحمه الله، الكاتب والمفكر والشخصية القيادية الذي قدَّم بعطائه وجهده من خلال الأدوار المهمة التي قام بها على مدى أكثر من سبعين عاماً في الدولة وعلى مختلف المجالات وقدَّم الخدمات الجليلة لدينه ووطنه ومليكه وأثرى المكتبة العربية بالمعرفة والإبداع من معين التجربة والمعرفة والفكر المستنير...».

وأما رد فعل الأبناء الخمسة البررة الأمناء على تراث والدهم (عبد المحسن وعبد الله ومحمد وحمد وخالد وعبد السلام) على التكريم، فإنه جاء في سياق كلمة كبيرهم الشيخ عبد المحسن المستشار في الديوان الملكي الذي بعدما تسلَّم الوشاح قال مخاطباً الملك «لا أجد من كل تعابير الشكر والحب والتقدير ما يحملني إلى كرم تلك المناسبة الجليلة على نفسي لتأخذ مكاناً مريحاً لها أشعر من خلاله أنني قد أستطيع أن أفي الإنسان الكبير جزءاً من حقه، فخادم الحرمين الشريفين بروحه الطاهرة الكريمة وبعطائه النبيل اليوم، وبالأمس مع والدي، فرض عليَّ وعلى أسرتنا أحاسيس روحية وأخلاقية ستظل تشير دائماً بأننا عاجزون عن التعبير عنها أو الوفاء بواجباتنا. ما أعظم وأكرم الوفاء في نفسكم الكريمة، فلقد تجاوزتم به وتجاوز بكم حدوده إلى أنبل الصور والتوقعات والمقاييس. أقول ذلك كما قاله والدي رحمه الله بالأمس وردده وأعتز وخفق قلبه به...». ثم يضيف ونيابة عن الأشقاء والعائلة والأصدقاء الذين نحن منهم في مجلس عبد العزيز التويجري في حياته وفي المجلس نفسه الذي يحرص كبير الأبناء عبد المحسن وإخوانه على استمرار إشراقه: «أنزلتموه حياً مكانة شُرِّف بها طوال حياته، حمَلَتْه إلى عالم واسع تعاملَ معه بلا غربة أو وحشة فأطلق معانيه وذخائره ومفاهيمه الكريمة بكم. واليوم تمنحونه ما انتم أهل له حين تتفضلون بتكريمه ومنحه وشاح الملك عبد العزيز لتقولوا له: يا عبد العزيز علوٌ في الحياة وفي الممات...».

خلاصة القول إن كلام الملك عبد الله بن عبد العزيز في مجلس الشورى يوم 15 مارس 2008 هو استمرار لكلامه مفتتحاً قمة الرياض يوم 28 مارس 2007 مثابرة منه على ترسيخ معاني المبدئية. كما أن المناسبتين المتلازمتين: الدورة الثالثة والعشرين لـ«مهرجان الجنادرية» والدورة الثلاثين لـ«جائزة الملك فيصل العالمية»، كانتا لحظة تأكيد بأن عبد الله بن عبد العزيز هو «قمة في المبدئية.. وأمثولة في العطاء والوفاء». وبالمقارنة مع ابتعاد بعض أُولي الأمر من عرب ومسلمين عن المبدئية حتى في محاسبة الذات وعدم تناسي الثوابت الوطنية، ومع انحسار رقعة العطاء في عالمنا العربي وفي الوقت نفسه خلو مجتمعنا من الأمثولات، فإن لحظة التأكيد للعطاء والأمثولة في الوفاء هي نوع من كرم الأخلاق الذي يفرزه وجدان ولي الأمر المصلح مثل الملك عبد الله أطال الله عمره وأعطاه بقدر معاناته تجاه أحوال الأمتين ونخوته تجاه المبتلين بويلات... سببها العناد والمعاندون هداهم الله.