كلمات صريحة حول «قمة دمشق»

TT

صديق باكستاني تخرّج في جامعة كمبريدج وغدا محامياً لامعاً في لندن، قال لي ذات يوم خلال دردشة: «.. هل تعرف يا سيّدي لماذا تتمحور السياسة، عندنا في باكستان حول الله ـ عز وجل ـ؟»

فأجبته بعفوية: «طبعاً، باكستان بلد إسلامي، وعلى الله فليتوكّل المؤمنون.. ».

فكان رده: «لا.. لا.. لا تذهب بعيداً، السبب هو انه وحده القادر على حل مشاكلنا العويصة!».

كلام سليم، وإن كان مثيراً للقلق أيضاً. ففي الوطن العربي لا تبدو الأوضاع العامة أفضل من وضع باكستان، لكننا ما زلنا نحاول خداع أنفسنا وخداع الآخرين بأننا قادرون على حل مشاكلنا عن طريق تجنّب مواجهة الحقائق وتحاشي تشخيص العلل الاجتماعية والسياسية التي تدمّر مؤسساتنا وتنهك شعوبنا وتدفعها دفعاً نحو اليأس.

أحياناً أتخيّل أنه لولانا، نحن العرب، لكان قطاع لا بأس به من الدبلوماسية الدولية في «إجازة مفتوحة». وإذا ما جمعنا إلى مشاكلنا العربية المشاكل الأخرى التي نتشارك فيها مع إخواننا في العالم الإسلامي الأوسع من راديكالية متفلتة غاضبة، وأصولية دينية ساخطة على البشرية، وميل خطير بوتيرة متسارعة نحو الإقصاء والإلغاء عن طريق العنف.. نكتشف أننا كعرب أو كمسلمين، نأخذ ربما 70 إلى 80% من مناقشات وقت مجلس الأمن الدولي.

بالأمس، على سبيل المثال لا الحصر، نشبت أزمة حادة كادت تفجّر حرباً بين الإكوادور وكولومبيا وفنزويلا، فكيف أمكن للقيادات المعنية لملمتها؟ وكيف يتيسّر احتواء أزمات المناطق والثقافات الأخرى.. بينما تظل أزماتنا عاصية على الاحتواء؟.. ألله أعلم!

ثمة مَن يقول لنا اليوم إن «القمة العربية» المقبلة المقرّرة في دمشق، هي المكان الصالح للخوض في نقاش معمّق صريح يهدف إلى التصدّي لعوامل التفرقة والهواجس والشكوك المتبادلة بين العرب. ولكن الواضح أن الجميع يأتي ـ أو بالأصح، مدعوّ ـ إلى دمشق وهو يشعر أنه محاصَر (بفتح الصاد). والواضح كذلك أن الدول الكبرى ترصد «مستنقعنا» الآسن باهتمام شديد، بدليل الزيارات الرفيعة المستوى التي قام بها عدد من كبار الساسة الأميركيين والروس والأوروبيين إلى المنطقة فقط، خلال الأيام العشرة الأخيرة.

فالفلسطينيون يعيشون حالة كارثية حقيقية من الانقسام، تغذيها إسرائيل برفضها مكافأة المعتدل العقلاني منهم لأنها أساساً نشأت على «عقدة الاضطهاد»، وقياداتها اليمينية المتلاحقة تهرب من استحقاقات السلام كلما اقترب منها الجانب الفلسطيني. وهكذا نرى السلطة عاجزة عن فرض وجودها بعدما أهدرت تل أبيب معظم صدقيتها السياسية، و«حماس» وحلفاءها يرفضون الالتزام ـ تماماً كمتشددي إسرائيل الحاكمين ـ بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي يُفترض أنها ملزمة لأي دولة أو أي «سلطة» تصبو لأن تغدو دولة.. بعدما نجحت «حماس» في الانتخابات وصارت جزءاً من «دولة» تبين أنها لا تريدها.

وفي دمشق، يرى الحكم السوري، الذي ارتكب سيلاً من الأخطاء الاستراتيجية خلال السنوات السبع الأخيرة، نفسه محاصَراً بالمحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري ورفاقه.. ولذا يندفع أكثر فأكثر للابتعاد عن الأسرة العربية والاعتماد علناً على إيران، والرهان ضمناً على إسرائيل.. بالتوازي مع ارتفاع حرارة الخطاب المذهبي السنّي ـ الشيعي في المنطقة. ولا شك، في أن تنامي دور طهران في سورية ولبنان بعد هيمنتها على معظم العراق يشكّل اليوم نقلة جيو ـ استراتيجية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط وللعالم الإسلامي، وهو سيخلّف ـ في حال السماح لإيران بأن تصبح قوة نووية ـ عواقب يصعب حصرها لأكثر من منطقة عربية على رأسها منطقة الخليج.

العراق الجريح، أصلاً، محتل ومقسّم.. وآفاق اللحمة الوطنية فيه تبدو ضيقة جداً، وبخاصة بعد تجديد الولاية لـ«التيار المحافظ» التوسّعي في طهران، والدور التركي الملتبس عراقياً وسورياً وإسرائيلياً.

أما لبنان الموعود غداً الثلاثاء بالهروب الـ17 إلى الأمام بعيداً عن انتخاب رئيس للجمهورية.. فقد اضحى «دمّلاً» ملتهباً قد تطاول سمومه في نهاية المطاف عدداً من جيرانه. والشيء المؤكد أن اللبنانيين فقدوا الآن تماماً زمام المبادرة الذي كانوا من قبل ممسكين به جزئياً على الأقل، واقترب البلد بـ«أقلياته» أو«قبائله» الطائفية من شفير الهاوية.

ولكن حتى خارج المشرق العربي ثمة مشاكل.

إذ يعيش السودان معضلة سياسية وإنسانية مع المجتمع الدولي، لا نظامه منها برئ.. ولا المجتمع الدولي حيالها سليم النية وشريف المقاصد. ومن المفيد التنبه إلى أن نزف دارفور سيبقي باب الفتنة التفتيتية للسودان مفتوحاً على مصراعيه. وهناك ليبيا التي لا تنظر بارتياح إلى تنامي «الحالة الشيعية» في بلاد الشام، وخاصةً إذا صحّ الكلام عن رغبة البعض في «محاصرة» الرئيس معمّر القذافي بموضوع اختفاء الإمام موسى الصدر. أما مسألة الصحراء الجارية المفاوضات بشأنها في مانهاسيت (نيويورك) فما زالت غمامة داكنة وثقيلة تخيّم على العلاقات المغربية ـ الجزائرية.

«قمة دمشق»، التي تطبّل لها وتزمّر وسائل الإعلام المحلية الموجّهة، معتبرة أنها مرشحة لتكون «قمة التضامن العربي».. لا تعد بذلك مطلقاً.

فضمن الأجواء المواكبة لانعقاد القمة، ما زال التهذيب الدبلوماسي الجم الذي يتجاهل الواقع ويحرص على تغييبه، يغلب ـ مع الأسف ـ على الواقع المؤلم للازمات الكبرى.

والظاهر أن اللباقة المفرطة التي أجادها على مرّ السنين أمناء جامعة الدول العربية المتعاقبون.. من عبد الرحمن عزام باشا إلى الأستاذ عمرو موسى، ما زالت تفعل فعلها، بل غدت من تراث الجامعة.

وكان الله في عون العرب حرباً أو كلاماً!