امرأة خلف «روشن» عتيق

TT

كنت لتوي عائدا بنصف وجه مخدر من عيادة طبيب الأسنان، وقد اقتلعت ضرسا طالت عشرتي معه حتى ملَني ومللته.. ألقيت النظرة الأخيرة عليه قبل خروجي من العيادة، فهبت في دواخلي نحوه مشاعر أقرب إلى الحزن، إذ يظل ضرسك منك حتى ولو قاسمك فيه السوس، كنت على وشك التقاطه لولا أن رمقني الطبيب مستغربا، فأوصيته به خيرا ومضيت.

كان الوقت مساء، وأضواء «الكورنيش» تمزق جبة الليل السوداء وتزدهي بالبحر، والنافورة، والمجسمات، وخطو الصبايا، وركض الصغار. أوقفت سيارتي في مواجهة مطعم تفوح من مدخنته رائحة الشواء، هممت بالدخول إليه، ولكن تذكرت ضرسي المخلوع فقمعت شهيتي، وترجلت مغربا صوب البحر، ألقيت بجسدي المنهك على أحد الكراسي الإسمنتية وحاولت الغناء، لكني اكتشفت أن نصف لساني غير قادر على الغناء بسبب «البنج»، وقد حالت القطنة في موضع الضرس المخلوع دون اشتغال النصف الآخر..

نقدت الصبية بائعة المناديل الورقية ريالا، فأعطتني ربطة من مناديل الجيب، وسلمتني بدلا من المبلغ المتبقي «علكة» بنكهة النعناع، تذكرت أنني لا أستطيع المضغ فجدت بها لطفل جاء ليلتقط كرته من جواري بعد أن اصطدمت بوجهي لتوقظ الألم من جديد في موضع ضرسي المخلوع.

كان البحر ساكنا كسجادة زرقاء، وخيوط فضية سكبها القمر تحد من امتدادات الزرقة.. على مقعد ليس ببعيد جلس زوجان شابان يتناجيان، لعلهما لم يتنبها لوجودي، أو لعلهما لم يعرا وجودي ذلك الاهتمام، فدلقا بعض البوح:

ـ يزعجني أن يكون عملك طبيب أسنان.

ـ هل تغيرين علي من الزبائن؟

ـ لا .. ولكن لا ينتابني شعور مريح في كل مرة أتخيلك تعالج فيها أسنان فتاة حسناء.

ـ أنا لا أرى على كرسي العيادة سوى إنسان يعاني من الألم، فيكون كل همي مساعدته.

ـ آه..

ـ مالك يا حبيبتي؟

ـ أسناني.

ـ ما بها؟

ـ تؤلمني.. أحتاج مساعدتك الإنسانية.

ويطلقان ضحكة مشتركة أشبه برنين فضة، ودعاية معجون أسنان جديد تومض في لوحة نيون بعيدة كعيون القطط.

أول ضرس خلعته كنت في العاشرة من عمري، لم يكن بهذه المدينة سوى مركب أسنان وحيد لقبه «أبو السنون»، كان علي بعد خلع ضرسي أن أقود دراجتي من عيادته بحي «المظلوم» إلى دارنا بحارة البحر وأنا أبكي، بعض الناس يغمضون عيونهم حين يبكون، وأنا من هؤلاء.. اصطدمت بعربة «كارُو» يجرها حمار، سقطت، تبعثرت أغراضي في الشارع، كل ما استطعت جمعه حينما نهضت من الأرض أربعة قروش، وقلم رصاص، وصورة لممثلة مصرية قصصتها من مجلة، وثلاث أسنان، وسائق العربة مضى في طريقه، وقد تعالى في الدروب نهيق حمار، ورنين قلاقل معدنية، وصوت امرأة خلف «روشن» عتيق يواسيني:

ـ قم يا ولدي تعيش وتأكل غيرها!

[email protected]