قمة الانفصال

TT

لم يعد هناك مجال للكلام المعسول. سوريا في ظل ثقافة الحكم الحالية ورهاناته. تبحر في اتجاه معاكس للسفن العربية، ولأهم سفينتين في هذا الأسطول العربي: مصر والسعودية.

اللغة في دمشق، غير اللغة في القاهرة والرياض، الرهانات في عاصمة الأمويين، غير الرهانات في قاهرة المعز ورياض «معزي» الملك عبد العزيز.

من أجل ذلك، فإن قمة دمشق المقبلة، التي تعقد في «قلب العروبة النابض» ستكون قمة الحقيقة المحزنة. وعوض أن تكون جامعة للعرب، ستكون مفرقة لهم، لن تكون قمة الاتصال بل الانفصال، بعدما تعودنا على لملمة القمامة تحت السجادة زمناً طويلاً، حتى فاحت رائحتها، ولم يعد يمكن تجاهلها.

ارتضى نظام الرئيس بشار الأسد المراهنة على احتضان ملالي إيران وحرسها الثوري له، ولم يعد يتحدث لغة العرب ولا يفكر في مصالحه وأمنه بطريقة التفكير العربي.

سافر بعقله وقلبه وجسده إلى أودية خراسان وجبال أصفهان، مع انه «بعثي» يضع الوحدة العربية والهم العربي في قلب عقيدته السياسية، كما قال معلمو البعث عن دين العروبة: «ديننا ماله ثان»، لكن الإيمان يحتاج إلى أعمال حتى يتم البرهنة عليه، أتحدث هنا لغة البعث وألمس ثقافته، حتى اذكر ابن البعثي العتيق حافظ الاسد بما تربى عليه وحاسب الآخرين عليه، وإلا فإني اعتقد أن القومية العربية ومعها الأممية الإسلامية، وجهان سيئان لعملة رديئة واحدة، بعدما رأينا إلى أين قادتنا مغامرات القوميين وغزوات الإسلاميين.

الأسد الابن، سليل الثقافة البعثية، ذهب الى إيران الخمينية، سليلة الثقافة الأصولية، وكان المفترض أن يكون كما قال شاعر العرب والعربية، المتنبي، عن نفسه وهو متجه إلى أودية خراسان طالبا مصلحة ومجدا:

ولكن الفتى العربي فيها *** غريب اليد والوجه واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها *** سليمان لسار بترجمان

ولكنه على عكس شاعر العربية، اصبح خبيرا بلسانهم وعقلهم وقلبهم وصار كما قال شاعر آخر من شعراء العامية بعد المتنبي بمئات السنين، وهو يهجو أميرا عربيا تحالف مع الترك في إحدى معاركه، فقال عنه:

عاف العرب بسموتهم صار تركي*** حتى بعد بلسانهم صار بيطار

أي أنف من العرب وطبائعهم وثقافتهم، لدرجة انه أصبح تركياً في ثقافته ولسانه ورهاناته.

وبعيدا عن لغة القومية الرومانسية، التي يحاسب بها من يدعي الإيمان بها، يبدو في لغة المصالح الكبرى، والرهانات العظمى أن السياسة الحالية لنظام الحكم في سوريا كانت ستصل يوما إلى لحظة الاصطدام بينها وبين أهم دولتين عربيتين في المنطقة: مصر والسعودية، منذ أن بدأ نظام بشار في تعميق التحالف مع إيران، إلى درجة التبعية، ومنذ أن تحولت إيران إلى النجادية الخامنئية، ونزعت عباءة خاتمي ورفسنجاني. ومنذ أن تنامى في لبنان تيار الاستقلال عن الوصاية السورية، ومنذ أن دخل مجلس الأمن على الخط وأصدر قراره الشهير القاضي بخروج القوات السورية من لبنان.. حصحص الحق حينها وتساقط ورق التوت، فاغتيل الحريري، الزعيم اللبناني الضخم، وتبعته رموز سياسية وإعلامية وفكرية، من شتى الطوائف، تجتمع على المناداة باستقلال لبنان وابتعاده عن الوصاية السورية، ثم جاءت المحكمة، فاستهين بها، ونظمت حملة إرهاب للتخويف من المضي فيها، لكنها لم تفلح في شيء، وها هي المحكمة على الابواب، وكما قال شارل رزق فـ«المحكمة الدولية في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وغيرها من الجرائم آتية»، و«القضاة اختيروا وسينتقلون إلى مقر المحكمة في لاهاي».

استخدم النظام السوري شماعة إسرائيل، وحاول استثمار القضية الفلسطينية لصالح الدعاية السورية ضد الأنظمة العربية المخالفة، وسيستمر في هذا الاستخدام، بناءً على أن إقحام اسم إسرائيل في أي موضوع خلاف عربي كفيل بتطيير المنطق والعقل، والذهاب فورا مع أي طرف يقول انه يحارب اسرائيل، حتى ولو كان كاذبا او مستغلا او متكتكا، فهذه هي عقلية المتلقي العربي: قل له اسرائيل، فتنفتح لك مغارة على بابا السياسية والإعلامية.. لتعطيك كنوزها وجواهرها، لعبة خيضت من قبل، وأخرجت الشوارع إلى الشوارع، وستخاض مجددا، وسنرى بعد قمة دمشق الأخيرة، خصوصا بعدما أعلنت السعودية انها لن تشارك إلا بمستوى منخفض هو مندوب السعودية لدى الجامعة العربية؛ حملة تخوين للسعودية ومصر والأردن، والشماعة جاهزة: القضية الفلسطينية وإسرائيل، طبعاً في جنوب لبنان هناك جبهة جاهزة دائما للاستخدام، وهناك حزب مستنفر على الدوام للضجيج والصراخ والحديث عن اسرائيل.. واسرائيل، جاهزة للحرب في كل حال، ولارتكاب عشرات المجازر من طراز قانا، ولن تبالي بالرأي العام العربي او الدولي، قصة أصبحت محفوظة عن ظهر قلب.

لكن المستفيد؟ ستتم حملة تلطيخ ممنهجة ضد السعودية ومصر والاردن، وبالذات السعودية، تتكون من إيران وسوريا كنظامين، من وراء الستار، وربما تخرج سوريا بعد القمة من خلف الستار، وحماس وحزب الله كجماعتين، وبضع صحف وفضائيات ومتحدثين صاخبين. المشكلة أن هذه اللعبة الابتزازية صارت مكررة، ألم يمل أحد منها؟!

ربما يكون الجديد في جعبة النظام السوري هو الحديث عن تورط سعودي في اغتيال عماد مغنية، وهو ما بدأ الهمس به من خلال رجال سوريا في لبنان من محترفي توصيل الشتائم السورية، كما قال احدهم عن أن: «أسنانا ستصطك» إذا ما أعلنت نتائج التحقيق في اغتيال مغنية.

سيتم الحديث عن سعوديين معتقلين في سوريا بتهم إرهابية، إلى هنا والأمر معقول فنحن نعرف كثيرا عن هؤلاء الشبان المتعصبين، ونعرف عن إرهابيي القاعدة السعوديين في العراق، وكانوا ـ بالمناسبة ـ يمرون عبر سوريا للعراق، وتحدثنا وتحدث غيرنا كثيرا عن أزمة التعصب وثقافة الموت لدى إسلاميي السعودية، فلا تباع بضاعتنا لنا، ولكن الجديد هو محاولة الإيحاء بوجود خطة سياسية رسمية لاستخدام الإرهاب في ردع نظام الأسد، على غرار استخدام هذا النظام نفسه للإرهاب في لبنان.. باعتبار أن خصوم نظام الأسد بنفس الطريقة التي يفكر بها نظامه الأمني.

لن تستطيع سوريا في ظل رهانات الرئيس بشار الأسد، أن ترغم السعودية أو مصر على القبول بقيادة إيران للمنطقة، لا بالكلام المعسول، ولا بالوعود التي لا تنفذ، ولا بإرهاب اللبنانيين واختطاف القرار هناك، ولا بشتائم وئام وهاب او ناصر قنديل، ومن شاكلهما. هناك خلاف حقيقي وعميق؛ سعودي ـ مصري، وعربي أيضا مع الرئيس بشار الاسد، ولسان حالهم يقول: أنت مع حسابات إيران أم مع حساباتنا؟

تلك هي المسألة بكل وضوح، وكان الله في عون السيد عمرو موسى الذي يريد الجمع بين الماء والنار، وتربيع الدائرة.

السعودية بعد تريث، أعلنت موقفها بما يشبه المقاطعة لقمة دمشق، من خلال بعث مندوبها لدى الجامعة ممثلا لها، والأخبار تقول إن الرئيس مبارك لن يحضر القمة، والمفاضلة الآن بين رئيس الوزراء احمد نظيف أو وزير الخارجية، ابو الغيط، لتمثيل مصر في قمة دمشق، هذا يعني إخفاق الرئيس بشار الأسد في تسويق سياسته على العرب. الآن يتضح الليل من النهار، وتنتهي هذه المجاملات الفارغة. وحتى الأخوان في البيت الواحد إذا تصادمت مصالحهما سيتعاركان.

هل يستعيد الأسد جلده؟ ويعرف انه يمضي في طريق مسدود، وانه مهما راهن على الضجيج والاغتيالات واستخدام المقاومة ضد إسرائيل كورقة حماية له من النقد (للتذكير لا توجد مقاومة سورية في الجولان المحتل!) مهما راهن على ذلك كله، فلن يبقى في نهاية الأمر إلا الواقع بكل صلابته، يقول: ماذا تريد وماذا فعلت حتى تحصل على ما تريد؟

أخيراً: ماذا بقي من جامعة الدول العربية الآن، سوى شعارها ومقرها.. وصوت عمرو موسى وابتسامته... سؤال بين يديّ قمة الانفصال.. قمة دمشق؟

[email protected]