السعودية.. والقمة العربية المقبلة

TT

إن للمملكــة العربيـــة السعودية بعض الخصوصيات تنفرد بها عن بقية دول المنطقة، بل عن بقية دول العالم الأخرى. فللمملكة أهميتها الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية التي تجعل لها دوراً بارزاً ضمن معادلة الموازين الإقليمية والدولية. ولا تُعزى أهمية المملكة لحقيقة كونها واحدة من أكبر الدول العربية مساحة وسكانا، ولا لكونها تمتلك حدودا مشتركة مع جميع الدول الخليجية، ولا لكونها من أكبر الدول المالكة والمنتجة للثروة النفطية، مما عزز من وضعها كواحدة من أهم الدول المؤثرة في أسواق الطاقة العالمية. ولكن، وبالإضافة إلى كل عوامل القوة المادية السابقة، فهي مهد الإسلام والعروبة، مما يمنحها مكانة دينية فريدة. وفي ضوء كل ذلك، فإن هناك حقيقة لا يمكن إغفالها أو تجاوزها، وهي تتمثل في استحالة عزل المملكة العربية السعودية أو تهميش دورها كلاعب أساسي ومحوري في السياسات والتوازنات الإقليمية. فالمملكة العربية السعودية تمارس في الوقت الراهن دوراً قيادياً في العالمين العربي والإسلامي، ومن موقع القيادة هذا تنشأ مسؤوليات وواجبات جسام.

لذا فإن قرارات قيادة المملكة بالمشاركة، أو عدم المشاركة، في اجتماعات القمم وعلى جميع مستوياتها، إسلامية أو عربية أو خليجية، إنما تأتي كترجمة لموقع الدولة ودورها وخصوصياتها ومسؤولياتها التاريخية. ومن الممكن القول: إنه من الصعوبة بمكان تصور قمة إسلامية ناجحة في حالة غياب السعودية عنها، كما لا يمكن تصور قمة عربية أو خليجية فاعلة لا تشارك فيها قيادة المملكة العربية السعودية.

وبصفة عامة، ومن خلال استقراء خبرة الماضي، فإن هناك ثلاثة خيارات رئيسية تواجه قيادة الدولة لتحديد الموقف تجاه اجتماعات القمم وأزماتها المتكررة. فأولها وأكثرها صرامة وجدلا هو قرار المقاطعة والتغيب التام عن القمة كوسيلة للتعبير عن عدم الرضا أو القناعة عن مواقف الدولة المنظمة أو المضيفة، أو انعدام الإيمان بجدوى الاجتماع وأهميته، أو بقدرة المجتمعين على التوصل إلى قرارات ذات أهمية. أما الخيار الثاني، فهو قرار المشاركة ولكن بتمثيل رسمي منخفض، والهدف من ذلك هو توجيه رسالة احتجاج وعدم رضا، ولكنها مقرونة بالحرص على التزام الدولة باستمرار آلية عقد الاجتماع وعدم الرغبة في تعطيلها. أما آخر هذه الخيارات هو خيار المشاركة الكاملة والفاعلة على أعلى مستوى، مع طرح رؤى المملكة في القضايا المطروحة على جدول الأعمال بكل صراحة ووضوح. ومع اقتراب عقد مؤتمر القمة العربية في العاصمة السورية دمشق، باتت الخيارات الثلاثة مطروحة أمام المملكة العربية السعودية.

تأتي القمة المزمع عقدها في دمشق على خلفية محزنة من الخلافات بين سوريا من جهة، وكثير من الدول العربية من جهة أخرى. فهناك موقف تدعمه دول عربية عديدة سواء داخل مجلس التعاون أو خارجه مثل مصر، والأردن، ومعظـــــم دول الشــمال الإفريقي، وهو يحمل سوريا جانباً رئيسياً في مسؤولية تدهور الأوضاع في لبنان، ومسؤولية المساهمة في توسع نفوذ إيران في المنطقة وتدخلها السافر والمدمر في الشؤون العربية عبر محور التحالف الاستراتيجي بين دمشق وطهران. ولا تجد عواصم عربية عديدة القدرة على أو الحكمة في التغاضي عن هذه الحقيقة المرة وإغفال الدور السلبي للنظام السوري، كما لا تجد مبرراً لمكافأة دمشق عبر المساهمة بإنجاح مؤتمر قمة عربية يُعقد على أراضيها من دون ضمانات مسبقة تدل على حرص القيادة السورية على تقديم المصالح العربية على المصالح القطرية الضيقة.

وفي ظل هذه المعطيات، فإن قرار مقاطعة المملكة العربية السعودية للقمة، أو المشاركة فيها بتمثيل منخفض سيُتخذ بناء على تقديرات القيادة السعودية للموقف السوري قبل، وأثناء انعقاد اجتماع وزراء الخارجية الذي يسبق القمة بفترة قصيرة، وبالتشاور التام مع العواصم العربية الأخرى التي تشاطر الرياض وجهة نظرها. ولكن كثيراً من المراقبين والمحللين يرون أن موقف دمشق واضح المعالم، فهي تبدو، حتى كتابة هذه السطور، على استعداد للتضحية بالقمة العربية أو القبول باجتماع قمة شبه فاشل وشكلي من أجل ضمان حماية مصالحها في لبنان، وضمان ديمومة التحالف الاستراتيجي مع طهران. فسوريا، ومنذ اغتيال رئيس وزراء لبنان السيد رفيق الحريري، تعيش في شبه عزلة تامة عربياً ودولياً، كما يلوح في الأفق القريب شبح المحكمة الدولية للمتورطين في جريمة اغتيال الحريري والتي قد لا تستثني من قائمة المتهمين قيادات سورية فاعلة بجانب عناصر من حلفاء سوريا في الساحة اللبنانية.

وعلى الرغم من أنه لم تعد تفصلنا إلا أيام معدودة عن الموعد المقرر لانعقاد القمة، فإنه لا يبدو في الأفق احتمال الإلغاء أو التأجيل الطوعي للقمة من قبل القيادة السورية كوسيلة للخروج من المأزق الراهن. ولكن إذا كان عدد كبير من الدول العربية يرى ضرورة الاحتجاج على الموقف السوري سالف الذكر، فإن هذه الدول تؤكد أن ذلك يجب ألا يؤثر على آلية الانعقاد الدوري للقمة العربية. وفي هذا الإطار، يبدو أن هناك خيارين أمام قيادة المملكة العربية السعودية هما: خيار المقاطعة أو المشاركة بتمثيل منخفض، فإما أن تقوم المملكة بالمقاطعة التامة لاجتماع القمة، وهذا الخيار لن يكون مؤثراً عملياً ومعنوياً بالشكل المطلوب إن اتُّخِذ بشكل أُحادي منفرد، حيث سيظهر في هذه الحالة على أنه مجرد غياب سعودي يُوضع في خانة الاحتجاج وضمن إطار الخلاف الثنائي السعودي ـ السوري. لذا فإن خيار المقاطعة، لكي يكون مؤثراً، يستوجب التنسيق والاتفاق بين عدد من قيادات الدول العربية لاتخاذ موقف مُوحَّد في مقاطعة قمة دمشق. أما البديل الآخر فهو اتخاذ قرار بتخفيض مستوى التمثيل الرسمي إلى أدنى مستوى ممكن مما يسمح بتوجيه رسالة قوية لدمشق.

والاختيار الثاني المتاح أمام المملكة هو المشاركة الفعالة في اجتماع القمة ومحاولة التنسيق مع القيادات العربية الفاعلة لتوظيف اجتماع القمة لتحديد المسؤوليات عن تدهور نظام الأمن القومي العربي، والعمل من أجل ترميم العلاقات العربية ـ العربية، مع حثِّ النظام السوري على العمل والمساعدة على إصلاح النظام الأمني العربي، على نحو يمهد الطريق لرأب الصدع بين دمشق وبعض العواصم العربية، الأمر الذي سيساعد دمشق على الخروج من عزلتها.

وتبني هذا الخيار سيكون له آثار مهمة في حالة النجاح وتحقيق وحدة الصف العربي أمام المخاطر التي تواجه الأمة العربية والمتمثلة في الاحتلال والعدوان الإسرائيلي والأمريكي المستمرين للأراضي العربية، والتدخل الإيراني الخطير في الشؤون العربية، وفي حالة الفشل في تحقيق هدف تقويم مسار الموقف السوري فإن المملكة العربية السعودية وباقي الدول العربية تكون قد أدت واجبها بحضور القمة، وقامت بواجبها في بذل الجهد من أجل الحفاظ على وحدة الصف العربي وحماية سوريا وحماية مصالح الأمة العربية من المخاطر والتهديدات.

ولكن الحريصين على مصالح هذه الأمة يتمنون أن تتجاوب سوريا مع التوجهات العامة للعديد من الدول العربية لإنجاح أعمال القمة، مما يجعلها في حقيقة الأمر بمثابة رسالة موجهة إلى مختلف الأطراف التي تستهدف الوطن العربي مفادها أن العرب قادرون على تجاوز خلافاتهم، والعمل بشكل جماعي من أجل حماية مصالحهم الاستراتيجية المشتركة. أما فشل القمة فسيعزز من الانطباع السائد بعدم أو ضعف مصداقية النظام العربي الرسمي، مما يجعل مستقبل هذا النظام في الميزان، فإذا لم يتضامن العرب لمواجهة المخاطر والتحديات التي تواجههم.. فمتى سيتضامنون إذن؟

* رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]