صناع المستقبل.. رحيل «أبو أقمار» الاتصالات الصناعية

TT

كتاب الخيال العلمي هم صناع المستقبل، فقد اخترعوا الكثير على الورق وسجلوا علامات مميزة في تاريخ البشرية، وقد أصبح الخيال العلمي علماً من علوم المستقبل المهمة وبخاصة في الدول المتقدمة، حيث يشهد حالياً اهتماما متزايداً، لدرجة أن العديد من الشركات الكبرى ومراكز البحوث العلمية والتعليمية والمؤسسات العسكرية ووكالتي الفضاء الأميركية والأوروبية قد استلهمت ـ وما تزال ـ من أعمال الخيال العلمي العديد من المشاريع العلمية والبحثية الفريدة التي ساهمت في بناء عالم الحاضر واستشراف المستقبل، ذلك لأن أدب الخيال العلمي يعد «معملاً علمياً خيالياً» يحاول الكاتب من خلاله إيجاد حلول للعديد من قضايا ومشكلات المجتمع، أو التحذير من بعض المسائل وتهيئتنا وإعدادنا لمواجهتها.

وخلال شهر مارس الحالي رحل عن عمر 90 عاماً، رائد وكاتب الخيال العلمي البريطاني الشهير آرثر سي كلارك الملقب بأبو فكرة أقمار الاتصالات الصناعية، والذي قال إن «القراءة النقدية لأدب الخيال العلمي هي بمثابة تدريب أساسي لمن يتطلع الى الأمام أكثر من عشر سنوات»، ويعد «كلارك» أحد أبرز كتاب الخيال العلمي في القرن العشرين، فقد كتب أكثر من 80 كتاباً ومئات الروايات والقصص القصيرة والمقالات، واشتهر بتنبؤاته العلمية الدقيقة، ومن أهمها فكرة «أقمار الاتصالات الصناعية» Communications Satellites والهبوط على سطح القمر، والكمبيوتر «هال» الذكي في روايته «2001: أوديسا الفضاء»، إذ يذكر أنه عندما هبط رائد الفضاء الأميركي نيل آرمسترونغ على سطح القمر في عام 1969، قالت الولايات المتحدة «إن كلارك قدم القيادة الفكرية الأساسية التي قادتنا الى القمر».

ولد الكاتب البريطاني آرثر تشارلز كلارك Arthur Charles Clarke عام 1917 في بلدة ماينهيد Minehead الساحلية في منطقة سومرست Somerset. وفي سن الثالثة عشرة صنع أول تيليسكوب من عدسات قديمة وأنبوب كرتون، ويقول «لم يمض وقت طويل حتى بدأت أعرف سطح القمر أكثر من سومرست موطني». ويقول بينما كانت والدتي الأرملة تكافح كي تؤمن رزقنا من مزرعتنا الصغيرة، أمضيت وقتي أركب أدوات وأجهزة علمية، وتمكنت من صنع جهاز بث صور ناطقة صنعته من مصباح دراجة، وكان يستطيع إرسال الكلام الى بضع ياردات على امتداد شعاع ضوئي، كما حاولت صنع جهاز التحوير السمعي لضوء الشمس بوسائل ميكانيكية». وعندما كان في الرابعة عشرة رأى مجلتي «قصص مذهلة» و«قصص مروعة»، يقول: «على الفور تبدلت حياتي، وطوال سنوات جمعت كل مجلة فيها روايات خيال علمي وضعت يدي عليها».

وفي سنة 1945 كان ضابط رادار شابا في سلاح الجو الملكي البريطاني، وكان يتمتع بومضة من الإلهام، وفجأة رأى كيف سيكون ممكناً نقل الموجات الإذاعية والتلفزيونية حول العالم، فكان المذيعون مصابين بالإحباط منذ فترة طويلة لأن موجات الراديو تنتقل بخط مستقيم لذا لا تصل الى النقاط البعيدة على سطح الأرض المنحني، فأدرك الشاب البريطاني أرثر كلارك أن من الممكن وضع ثلاثة أقمار صناعية في مدار على ارتفاع 22300 ميل فوق خط الاستواء، ومن ثم يمكن توجيه إشارات الإذاعة منها الى أجهزة الاستقبال في أي مكان على الأرض تقريباً. ونشر تفاصيل فكرته في المجلة البريطانية الشهيرة «عالم اللاسلكي» Wireless World، وبعد ثلاثة عقود أصبح قمر الاتصالات الذي تصوره حلقة وصل رئيسية بين دول العالم. ويقول «كلارك» إن قمر الاتصالات هو أهم فكرة في حياتي، ولو أدركت سرعة تحويلها الى شكل مادي لربما سجلت حق الاختراع، وبالطبع كانت الفكرة لدي قبل أن أشاهد التلفزيون التجاري».

ومن أشهر أعمال كلارك قصة «2001: أوديسا الفضاء» التي حولها المخرج ستانلي كوبريك الى فيلم سينمائي في عام 1968، ومن أجل ضمان الدقة العلمية والتقنية للفيلم ـ الذي كان في الأصل قصة لكلارك عنوانها الخفير ـ استشار كلارك وكوبريك خبراء أكثر من 40 مؤسسة رئيسية علمية وصناعية ووكالة الفضاء الأميركية ناسا. وقبل بدء التصوير عمل 36 مصمماً تقنيا من 12 بلداً طيلة أشهر على إعداد أماكن المشاهد وكل ما يستعان به في التصوير السينمائي.

وحالياً تقوم وكالة الفضاء الأميركية بأبحاث جادة على تصميم «مصعد فضائي» space elevator يربط الأرض بالقمر لرحلات المستقبل. وهي فكرة سبق أن تناولها الكاتب أرثر سي كلارك، في روايته الشهيرة «ينابيع الجنة» The Fountains of Paradise عام 1979.

لقد أصبح الخيال العلمي الآن علماً مهماً في الدول المتقدمة، إذ يعد الآن أحد أهم الوسائل التعليمية والتربوية الحديثة لتنمية التفكير العلمي وغرس حب العلم والثقافة العلمية وتنمية الإبداع وإعداد العلماء والمخترعين. بينما وللأسف في عالمنا العربي لا يزال الاهتمام بأدب الخيال العلمي نادراً، ولا يحظى كتابه بالاهتمام والتقدير، كما لا يزال الكثيرون يعتقدون خطأ بأنه وسيلة ترفيه وتسلية.

في تقديم عالم الفضاء والجيولوجيا الدكتور فاروق الباز مدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن الأميركية، لكتابي (بالاشتراك) بعنوان «الخيال العلمي وتنمية الإبداع»، والصادر عن «ندوة الثقافة والعلوم» بدبي، قال الباز إن الخيال العلمي من صفات الإنسان المفكر الذي لا يكبح جماح عقله أي حدود، وأنه يمثل إحدى المبادرات الأدبية الفريدة. ويذكر مثلاً لأهمية الخيال العلمي أثناء عمله في برنامج أبوللو لاستكشاف القمر، بأنه «أثناء العمل للإعداد لهذه الرحلات اطلع زميل على نسخة من رواية «من الأرض الى القمر» عام 1865 لكاتب الخيال العلمي المبدع الفرنسي جول فيرن، وكانت هذه النسخة من أوائل الطبعات وشملت على رسومات طلبها وحققها «فيرن» بنفسه، وعند دراستنا لهذه الرسوم اتضح أنها تقارب حقائق الأمر الواقع في الستينات». يضيف الباز: كان الأمر غريباً فآثرت أن أناقشه مع مدير مشروع أبوللو الذي قال لي «كنا في الصغر نقرأ كتب جول فيرن، وأنا لا أستبعد أن الأشكال التي وردت في صفحات رواية فيرن قد انطبعت في ذاكرتنا بدون أن ندري، ولما حان الوقت لإعداد سفن أبوللو انبثق كل ما كان مختفياً في تصميماتنا»، يمثل هذا أن الخيال العلمي للكاتب جول فيرن قد أثر على تصميم مركبات أبوللو، ولأن الأشكال كانت متشابهة الى حد كبير، أصدرت مجلة «لايف» الأميركية Life Magazine ألبوماً للصور القديمة والحديثة معاً.

وأخيراً فالسؤال المطروح هو: إلى متى سيظل الاهتمام بأدب الخيال العلمي وكتابه في عالمنا العربي نادراً ومهمشاً ومتواضعاً؟ مع العلم أن الجذور العربية الأصيلة لأدب الخيال العلمي تؤكد أن للعرب سبقاً في هذا المجال؟

* كاتبة وباحثة مصرية

في الشؤون العلمية