على أبواب قمة دمشق؟!

TT

على مدى العقود الماضية لم تكن هناك قط قمة عربية سهلة، وفي أوقات ممتدة سابقة كادت كل القمم العربية أن تكون قمما «طارئة» وضاغطة على الأعصاب العربية الملتهبة طوال الوقت، وحينما باتت القمم «دورية» لم تتغير الأمور كثيرا فقد باتت كل القمم هما على القلب العربى العليل. وربما كان في كل ما سبق مبالغة، فمن كثرة وتكرار «حالة القمة» المرهقة فقد تعود الجمع العربى على القصة؛ وإذا كان القول صحيحا أن كل إنسان له الحق في عشرين ثانية من التاريخ فإن القمة ربما تستحق ثانيتين على الأقل أو سطرين في كتب التاريخ يشيران إلى الانعقاد والانفضاض والإحالة إلى قرارات قمم متعددة. وبالتأكيد فإن السؤال الملح هو إذا كان ذلك كذلك فلماذا تنعقد القمم إذن إذا كان الحاضرون لها يشعرون بمثل هذه التعاسة، أما الغائبون عنها فيعدون الوقت بالثوانى حتى تنتهي الحالة البائسة للتساؤل حول الغياب؟!

القصة معقدة كما هو حال كل القصص العربية ولكن الثابت أن انعقاد القمة ضروري، ولا يستطيع أحد طرح إلغاء انعقاد القمة؛ تماما كما تعودت أسرة انفرط عقدها على الاجتماع في الأعياد ولا يوجد من يجرؤ على التصريح بأن اللقاء ليس أمرا سعيدا بحال. ولذلك يعد الجمع الساعات القليلة للقاء بعد أداء الواجب، وإلقاء التحيات بينما الطائرات جاهزة على ممرات الانطلاق عودة إلى عاصمة أو ذهابا إلى عواصم أخرى للتأكيد أن كلام القمة يجب ألا يؤخذ بكثير من الجدية. وفي قمة بيروت عام 2002 طرح العرب مبادرتهم الشهيرة للسلام مع إسرائيل، ولكن نفس القمة أعادت التأكيد على قرارات سابقة لا تتسق معها، وعندما تساءل العالم عن الحقيقة بين المبادرة والقرارات لم تكن هناك جهة جاهزة للتفسير، وجرى اللوم للدنيا كلها لأنها مصرة على وضوح ما لا ينبغي أن يكون فيه إلا الغموض.

وفي العموم فإن كثرة من العرب تنتقد العالم كله عندما يطرح فكرة «الغموض البناء» رغم أن الحياة العربية كلها تقوم على هذا الغموض بين السلام والحرب، وبين الدين والدولة، وبين التشريع والفتوى، وبين العولمة والخصوصية. وهذه حالة تفيد دوما عندما لا تريد لأمر أن يتحرك على الإطلاق أو لسياسة أن تجد لها تطبيقا عمليا؛ وإذا كان أهل الكهف قد دخلوا إلى كهفهم وخرجوا ليجدوا الدنيا تغيرت فإنهم لو فعلوها في العالم العربى هذه الأيام فسوف يعودون ليجدوها على حالها حيث القضية الفلسطينية باقية، وأمن الخليج لم يتحرك خطوة نحو الأمن والاستقرار، ولبنان لا يزال يبحث عن رئيس للجمهورية، وهكذا أحوال.

ولكن المشكلة التي يعانى منها العالم العربى حاليا أن استمرار الغموض لم يكن حالة مقبولة من دنيا باتت فيها كشافات مضيئة وساطعة لا تغفر لأحد تخلفه وانزواءه، وتدريجيا فإن نقاط التماس والاحتكاك أخذت في الالتهاب مرة بسبب عدم الاستقرار والأزمات، ومرة بسبب الديمقراطية، ومرة بسبب الرسوم الدنمركية وما شابهها. وبات المأزق الذي تعيش فيه كل الدول العربية عند تعاملها مع العالم أنها باتت تمثل عالما عربيا واسعا ومتعددا حتى ولو كانت إرادتها الوطنية تحاول البقاء بعيدا عن الجمع الذي بات الوجود فيه مكلفا للغاية. وربما كان عقلاء العرب هم الأكثر معاناة من نوعين من الحرج: واحد في الداخل حيث المزايدة على المواقف «القومية» حارة وساخنة وأحيانا حارقة؛ وواحد في الخارج حيث يبدو العالم العربى أحيانا وكأنه لم يخرج من العصور الوسطى وأحيانا أخرى كأنه لم يعرف بعد أن الحرب الباردة انتهت منذ سنوات كثيرة.

وما يعقد القمة أكثر من كل وقت مضى هو انعقادها في دمشق؛ وفي أوقات عادية ـ إذا كان هناك يوما أوقات عادية ـ كان ممكنا للقمة أن تحمل رموزا كثيرة. فدمشق هي أقدم المدن والحواضر العربية، وهي عاصمة مجد الخلافة الأموية، ومنها خرج شعراء وعلماء ومفكرون أعطوا للعروبة كثيرا من معناها العام والشامل. ولكن دمشق ساعة القمة ليست تلك العاصمة التي نتحدث عنها، فالحواضر لا تدعو أحدا ولا تعقد قمة وإنما الحكومات والأحزاب الحاكمة. ودولة البعث العربية الاشتراكية تنتمى بحماس غير قليل لعصر الحرب الباردة وممارساتها الثقيلة بتحالفات مرة، وهي في قلب الصراع العربى ـ الإسرائيلي حتى ولو كانت حدودها صامتة، ولديها حرب في لبنان لم تنته بعد وتدور رحاها بالاغتيالات والمحاكمات والمقايضات، وصداع لو تعلمون كثير!.

الحالة فيها خصوصية إذن، فقد جرت العادة أن تكون الدولة المضيفة للقمة هي التي تقوم بتهدئة الأوضاع العربية حتى تكفل نجاح ساعات الاجتماع على الأقل؛ وفي أوقات كانت الدولة المضيفة تبذل بعض الجهود لتسوية أزمات قائمة، وفي حالات أخرى كانت ترتب بكياسة لجلسات عتاب أو حتى مودة. ولكن دمشق هذه المرة كانت طرفا في أزمات عربية كثيرة، وهي مولدة لحالات من الاستقطاب والتوتر. وسواء كانت المسألة في العراق أو في فلسطين أو في لبنان أو في الخليج فإنه يوجد لسوريا وجود أو ظل وجود لدولة أخرى أكبر وأكثر عنفوانا في الثورية والرغبة في إعادة ترتيب أوضاع المنطقة.

والحقيقة أن الأمراض الثورية ظلت تنخر في الجسد العربى خلال العقود الماضية بالمزايدة وطلب المستحيل من خلال موارد قليلة للقوة، أو من خلال تحالفات دولية هشة. وكان النجاح الوحيد للثوار أنهم أجبروا العقلاء على الصمت عندما وجب الكلام، والانسحاب حينما كان العمل مطلوبا، والمواءمة عندما كانت الفرص متاحة. وفي الحقيقة فإن دمشق لن تترك فرصة خلال الأسابيع الماضية من دون التأكيد على كل ما سبق والاستعداد لما هو أكثر منه بعد أن ظهر لها أن مغامرتها في «أنابوليس» لم تكن مثمرة لا في موضوع محاكمة من قاموا باغتيال الحريري أو في موضوع الجولان، وكانت النتيجة غضبا إيرانيا لا تريد سوريا مزيدا منه في سماء منطقة ملبدة بغيوم كثيرة.

وفي الظن أن القمة العربية سوف تأتي وتذهب كما جاءت وذهبت القمم العربية السابقة، وبنفس الطريقة سوف تحصل على ثوانيها من التاريخ وساعاتها من التغطية الإعلامية، وسوف يحصل من حضروا على اهتمام، أما من غابوا فسوف يحصلون على اهتمام أكبر. ولكن قضايا العالم العربي سوف تبقى على حالها وربما سيكون التعامل معها ناجعا إذا ما كان لدينا عدد محدود من الدول يقود المسألة بالحكمة والحزم، فرغم أن الاتحاد الأوروبي يضم 27 دولة، إلا أن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تظل لها مكانة خاصة في الإيحاء والقيادة ورسم الاتجاهات. وضمن هذا الإطار فإن سوريا من الأهمية بحيث يصعب تجاهلها، وتشير تجربة «أنابوليس» الى أنها على استعداد لمغادرة تحالفات غير مواتية إذا ما كان الثمن مرضيا على جبهتي المحاكمة والجولان. فلماذا لا تجري مساعدة جادة على الجبهتين فتنتهي المحاكمة كما انتهت لوكيربى من قبل؛ وهناك في إسرائيل من هم على استعداد لكي تكون «سوريا أولا» هي المنهج الأساسي في عملية السلام طالما أن الفلسطينيين سوف ينتظرون ما سوف تجلبه لهم حماس من انتصارات قادمة؟! والإجابة ليست سهلة، وهناك كثرة تظن أن عليها الابتعاد عن كل ما يخص سوريا التي لا تعرف ما إذا كانت تريد حربا أم سلاما؛ ولكن الظن هنا هو أنه ربما نريد بعضا من التغيير بعد القمة في ما تعودنا عليه؟!