قمة الهوية أو الهاوية

TT

لم يكن لأي قمة عربية، منذ العام 1964، معنى وجودي وطابع كياني مثل هذه القمة الوشيكة في دمشق. فلا الانشقاق السياسي في نهاية السبعينات (معاهدة كامب دايفد)، ولا مأزق العلاقات في مطلع التسعينات (اجتياح العراق للكويت)، ضربا في عمق المصير العربي وكيانية العرب، مثلما تفعل الآن القمة العشرون في العاصمة السورية. في جوهرها، هي ليست قمة فلسطين (كما تعلن دمشق)، ولا قمة العراق، ولا قمة لبنان، ولا قمة السودان، أو أي أزمة عربية داخلية أو بينية، وإن ربضت كل هذه الأزمات على صدرها. إنها، في الواقع، قمة الهوية العربية، تسبقها وتتخللها وتعقبها أسئلة مصيرية مجدولة على هواجس وجودية: هل للعرب كيان، ونظام، ومشروع، وهوية، ورؤية، وحضور، ودور، وفاعلية؟ وهل ما عجزت عنه أربعة قرون من العثمنة، وقرن كامل من الغربنة، وستون عاما من الصهينة، تنجح اليوم الفرسنة في تحقيقه بعد ألف عام من فشل المحاولة الأولى خلال العصر العباسي وخطر الحركة الشعوبية؟ وما هي حقيقة تقاطع المشروع الايراني الحديث مع المشاريع الثلاثة التاريخية الأخرى التي يختصرها مثلث تركيا، إسرائيل، الغرب؟

سنة واحدة فقط، وهي في حساب الزمن كأمس الذي عبر، كانت كافية لحمل كل هذه الأسئلة والهواجس والقلق الوجودي وطرحها على الوجدان العربي في غمرة القمة العشرين: بين الرياض 2007 ودمشق 2008 تدفقت مياه كثيرة تحت الجسور العربية، واستيقظ النظام العربي الجديد الذي وضع العرب خطوطه في بيروت 2002، وأطلقوه برحابته وحداثته في إعلان الرياض التاريخي، على خطر آت من الشرق يمد أذرعته وأقدامه من الخليج الى المتوسط، منذرا بتغيير التوازنات والخرائط والهويات، عبر رسم مربّع هنا وقطاع هناك وقوس أو هلال هنالك. وتتضاعف وطأة هذا الخطر حين تشكّل سورية التي تستضيف القمة العربية أحد أخطر الاختراقات الإيرانية في الحالة العربية وذراعا طولى لمشروع طهران في صميم الوضع العربي من لبنان الى فلسطين فالعراق. وقد فشلت جهود مصر والسعودية وسواهما في استعادة المضيفة الى البيت العربي كي تكون قمة العرب للعرب، لذلك كان خفض مستوى الحضور بمثابة إدانة مسبقة للمشروع الإيراني ـ السوري الذي يقدّم أسوأ نماذجه في استرهان لبنان ومحاولة خنقه.

للمرة الأولى في تاريخ القمم العربية تقفز دولة، هي سورية، فوق الجغرافية والتاريخ، وتعقد حلفا استراتيجيا مع إيران ذات المصالح والمطامح التاريخية المناقضة للمصلحة العربية، وذات العلاقة اللدودة مع العالم العربي عبر القرون. ولا يحدّ من طبيعة الخطر ادّعاء القربى الجغرافية والدينية ووحدة الهدف وصفاء النيات، طالما أن النيات الطيبة ترصف غالبا طريق الجحيم، وطالما أن المشروع الايراني يخترق العرب باستعادة خطاب الأكثرية العربية في العقود الغابرة (ممانعة، تصدّ، مواجهة الغرب، إزالة إسرائيل..) ويحكّ على الغرائز النائمة التي هدّأها الوعي والتقدم الحضاري وحوّلها عن ثقافة العنف والغلو. وهذا ما يتقنه النظام السوري منذ مطلع السبعينات في قمع الأكثرية بشعاراتها، على طريقة ذبح الطيور بريش أجنحتها.

ولم يعد من باب الافتراض والتكهن القول بمعادلة الصداقة ـ الخصومة، أو التصادم ـ التفاهم، التي تحكم علاقة العداء الحميم والملتبس بين إسرائيل من جهة، وإيران وسورية وملحقاتهما من جهة أخرى: ومن أبسط الأدلة انخراط دمشق في مفاوضات سرية مع إسرائيل حتى خلال حرب تموز ـ آب 2006، وحدوث مفارقة غريبة في تاريخ الحروب تمثلت بخروج طرفين رابحين من حرب واحدة هما «حزب الله» وإسرائيل، وخسارة طرف ثالث لم يشارك في الحرب هو لبنان ـ الدولة والناس والمؤسسات، ومن ورائه النسيج العربي الناهد الى الاستقرار والازدهار والسلام ورحاب العصر. العالم العربي هو الآن ضحية آخر نموذجين لتصدير الأحزاب والمشاريع. قبل عشرين سنة سقط مشروع الأحزاب العابرة للقارات بسقوط الأممية السوفياتية، وقبل خمس سنوات سقط مشروع الأحزاب العابرة للدول بسقوط نظام صدام حسين، وبقيت في الشرق الأوسط فلول هذا الحنين المتهاوي تحرّك آمال نظامي طهران ودمشق وتفتح شهيتهما على حقوق جيرانهما. فهل بقي في العالم سواهما لمعاكسة حركة التاريخ تحت عنوان «الممانعة»؟

وتمضي دمشق عشية القمة في لعبتها الخطرة على حافة الخيارات الوجودية: فإما أن تنقذ نفسها ومعها العرب من فكّي الكماشة الإسرائيلية ـ الإيرانية، وتعود إلى سياقها التاريخي وبيئتها الصحيحة، وإما أن تنزلق الى قعر لا صعود منه، فتبقى وحيدة وتندم؟ أن أمامها خيارا كيانيا دقيقا بين الهوية والهاوية، والرهان معقود على يقظة اللحظة الأخيرة.

* كاتب سياسي لبناني