قمة دمشق والنظام العربي ولبنان

TT

مساء الخامس والعشرين من شهر آذار ـ وهو اليوم الذي كان من المفروض أن ينتخب فيه مجلس النواب اللبناني رئيس الجمهورية الجديد بعد أن أجّل الرئيس بري الموعد ست عشرة مرة! ـ اتخذ مجلس الوزراء اللبناني مجتمعاً قراراً بعدم المشاركة في القمة التي ستنعقد بدمشق يومي 29 و30 الشهر الجاري. وقد علَّل المجتمعون قرار عدم الحضور بثلاثة أسباب: التعبير عن رفض تغييب الفريق المسيحي أو التسليم بذلك بحضور القمة رغم عدم الانتخاب ـ وأنّ دمشق كانت وما تزال بين أسباب وعوامل العرقلة ـ واحتجاجاً على الظلم اللاحق بلبنان من سورية على مدى عدة عقود، والذي تفاقم في الأعوام الأخيرة، ولم يَحُلْ اقترابُ موعد القمة دون استمراره واستِعارِه.

وقد انتظرت الحكومة اللبنانية لبلورة قرارها ثلاثة أمور: توجيه الدعوة، وما يجري أو لا يجري يوم 25/3 بمجلس النواب، والمساعي العربية الأخيرة قبل القمة، عساها تكونُ دافعاً لسورية حرصاً على القمة ونجاحها، فتتخلّى عن تعنُّتها بشأن انتخابات الرئاسة. وقد وُجّهت الدعوةُ أخيراً بطريقةٍ غير ملائمة، وعَبْر موظفٍ سوري أتى إلى وزير الخارجية اللبناني المستقيل أثناء غياب الرئيس السنيورة بالقمة الإسلامية بالسنغال. وتجاهل الرئيس السنيورة وجوه عدم الملاءمة، وانتظر بالفعل الأمرين الآخَرين: ماذا يفعل الرئيس بري بموعد 25/3 لانتخاب الرئيس بمجلس النواب، وماذا يفعل الأمين العام للجامعة، وبعض الوزراء العرب الآخرين الذين كانوا يتحركون أيضاً لإقناع لبنان بالحضور، وإقناع سورية بالتصرف بحكمة (بحسب ما قاله رئيس الوزراء القطري). وجاء موعد الانتخاب السادس عشر، فأجَّله الرئيس بري للمرة الـ17 لشهرٍ كامل، ثم راح رئيس المجلس المقفل والمفتاح في جيبه وجيوب مَنْ لا ندري وَمَنْ، يتحدث عن الحوار الذي يريد العودة إليه، وهو الذي غادره قبل عامين، ويتحدث عن المعادلات الرياضية المعروفة (وهو بالمناسبة ليس محامياً في الأصل فقط، بل له إنجازاتٌ في الرياضيات!): 10+ 10+ 10، وس + س، وحوار + حوار = حُوار (أي ابن الناقة). وتلاه السيد حسن نصر الله فأَنجز في لحظاتٍ مسائل الحلّ الداخلي، التي قال إنها ستحصل بمبادراتٍ منه ومن الرئيس بري ومن الجنرال عون، وأضاف لهذين الأشوسَين هذه المرة الرئيس عمر كرامي (!). وبعد أن أطمأنّ إلى ذلك انصرف لإحصاء السُنّة الذين معه (وهم بالمناسبة 92 % من مجموع أهل السنة بلبنان!)، والذين ضده (وهم بالمناسبة 8 % من المجموع فقط!). ولو تدرون كيف وعلى أي أساس أجرى السيد هذا الإحصاء الموضوعي الراقي! طبعاً على أساس من يريد إزالة إسرائيل، وَمْنْ لا يريد إزالتَها! وما ظننت أن اهتمامات الرئيس عمر كرامي تتناول هذه الشؤون الهيّنة وهو الذي كان همه محصوراً إلى ما قبل عشرة أيام بفصل إفتاء طرابلس وأوقافها عن مركزية بيروت واستبدادها. لكنّ السيد نصر الله ـ (وهو الوكيل الحصري، والمتفرد بتحديد مَنْ مع إسرائيل ومَنْ ضدَّها، وليس لدى السنة فقط، بل وبالطبع لدى الشيعة أيضاً، ولدى المسيحيين وبخاصةٍ أنّ الأمر واضحٌ هناك: الجنرال عون حليف حزب الله زاحفٌ بالفعل باتجاه الجنوب لإزالة الكيان المحتلّ، وجعجع ليس مهتماً بالتحرير!) ـ أضاف إلى أعباء الرئيس كرامي هذا العبء الهيِّن، وفي مقابل ذلك أنعم عليه بالترحيب بالمبادرة التي سيطرحُها إن خطر له ذلك.

وعندما كان الموعد في الخامس والعشرين من هذا الشهر يمضي وينقضي ولا شيء فيه غير حواريتَي الرئيس بري والسيد نصر الله، كانت المساعي العربية تتوقف أيضاً أمام الصخرة السورية: الأمين العام للجامعة العربية المؤتمَن على المبادرة العربية بشأن لبنان، قال إنّه لن يكفَّ عن مساعيه بعد القمة، ثم تنبَّه إلى خطئه، إذ قد تُعفيه القمةُ من المهمة، فسارع للاتجاه المضاد وقال إنّ المسألة اللبنانية ستُبحثُ في القمة وسواءٌ حضر لبنان أم لم يحضُرْ! أمّا الآخَرون الذين كانوا يبذلون المساعي فقد تكاثرت بين أيديهم الشروط والتعميمات ووجوه البلبلة، بحيث ما عادوا يدرون بماذا ينصحون لبنان أو سورية. ولذلك فقد طوروا أوراقهم ولم يمزِّقوها على أمل أن يستطيعوا نَشْرَها إنْ سألهم عنها أحدٌ في الأمد المنظور. وهكذا وعندما رأت الحكومة اللبنانية أنّ الإخوة في سورية مصرُّون على الإمساك بخناق لبنان، كما قال وزير الخارجية المصري، اتخذت قرارها بعدم المشاركة في القمة، مؤكِّدةً أنها لن تحضر إلى دمشق بدون الرئيس المسيحي، ولن تحضر إلى دمشق ما دامت مصرةً على الاعتداء على لبنان.

إنّ الذين يعتقدون أنّ خصومة العرب الكبار (السعودية ومصر) مع النظام السوري، سببُها تعطيلُ انتخاب الرئيس اللبناني وحسْب، يأخذون الأمور مأخذ السهولة والتبسيط. فالمطروح على الطاولة مصائر النظام العربي، منذ حاصرتْهُ الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر عام 2001. وخلال خمس سنواتٍ غزا الأميركيون أفغانستان والعراق، وتمتعوا بالمسالمة الإيرانية تارةً وبالدعم تارةً أُخرى. وعندما كانت دول الجوار العراقي تجتمع في طهران آخِر مرةٍ قبل سنتين ونصف، قال لهم وزير الخارجية الإيراني: إنّ استمرار الأعمال الحربية ضد الأميركيين بالعراق يؤدي إلى بقائهم فيه لمدةٍ أَطْوَل؛ فالمطلوبُ توقُّفُ تلك الأعمال لكي ينسحبَ الأميركيون! بيد أنّ الأميركيين ومنذ أواسط العام 2005 لم ينسحبوا ولم يفكروا في ذلك، وإنما شعروا بالفشل في أمرين: عسكرياً وأمنياً في العراق بسبب المقاومة العراقية، واستراتيجياً بسبب الامتدادات الإيرانية وأبواب النفوذ التي فتحوها لهم على الأرض العربية، إضافةً إلى الملفّ النووي الذي اعتقدوا أنّ الولايات المتحدة لن تُصرَّ عليهم فيه ما دامت محتاجةً إليهم في الشرق الأوسط وفي آسيا الوسطى، وفي أفغانستان. ثم إنّ هناك أهميةً كبرى عالمياً لمصادر الطاقة التي يملكونها، ويستطيعون الضغط بها على الدول الكبرى، كما يستطيعون الضغط على العرب والأميركيين بالعراق وفلسطين ولبنان!

وفي العام 2005 بالذات بدأت المملكة العربية السعودية بتفكيك الحصار المضروب على العرب، وبمحاولة بناء النظام العربي من جديدٍ بحيث يكونُ قُطْباً استراتيجياً نِدَّاً للأطراف الأخرى بالمنطقة، وقادراً على لأْم الجراح، وعلى اجتراح خطٍ ثالثٍ لا يستنيمُ للولايات المتحدة، ولا يُساومُ مع إيران على الأمن والوحدة الداخلية. وما وفَّرتْ حديثا ولا اتصالا بسورية أو بإيران. وفي حين حصل نجاحٌ محدودٌ مع إيران بشأن تهدئة التوتُّر بين السنة والشيعة بلبنان، ما أثمرت الاتصالاتُ مع سورية شيئاً، بل الأحرى القول إنها أدت للعكس، وفي لبنانَ وفلسطين وقضايا مكافحة الإرهاب واستعادة العراق لحريته وسلامه. فقد اعتبر النظام السوري إيران سقفاً استراتيجياً، واتجه لمساومة الولايات المتحدة وإسرائيل شأنه منذ أكثر من ثلاثة عقود. وماذا يبقى من العرب والنظام العربي بالمشرق إن ازداد الانقسام بفلسطين ولبنان، وعَنُفَت الحرب الداخلية بالعراق، وأحكمت إيران قبضتها على عُنُق النظام بسورية؟! لقد تحدث الملك عبد الله الثاني ملك الأردن مرةً عن «الهلال الشيعي»، وهو تصوُّرٌ صحيحٌ، لكنه إيرانيٌّ وليس مذهبياً أو دينياً، كما صحَّح الملك فيما بعد. على أنه ما أمكن الوصولُ مع النظام السوري إلى شيء يفيد الاستقرار في لبنان أو فلسطين. وزاد الطين بلّة اعتبار النظام نفسه حلقةً قويةً في تحالفٍ لمقاومة أميركا وإسرائيل بالمنطقة، أما الآخرون فهم مُنتجاتٌ صهيونية ـ لكن كيف يكونُ ذلك، وسورية هي التي تقسّم في لبنان، وفي فلسطين، وكانت بين أسباب اشتعال الحرب الداخلية بالعراق، على أنّ هذا كلَّه لا اعتبارَ له ولا حساب، وسيصدّقها الجميع، وهي التي لم تطلق طلقةً واحدةً في الجولان المحتلّ منذ العام 1973!

لقد اعتدْنا نحن العرب على تبويس اللحى والتسويات العابرة وتأجيل المصارحة في النزاعات. وهذه العادات ليست سيئةً في الأساس، إذا كان المقصود تلطيف المناكفات الشخصية وتَنافُر الأمزجة. أمّا اليوم فإنّ التحدّي مصيريٌّ، وهو يتعلق بمصائر ثلاث أو أربع دُول عربية، في مقدمتها سورية ذاتها. ولذلك لا ينبغي التساهُل ليس من جانب العرب الكبار فقط، بل ومن سائر العرب، أو فقولوا لنا ماذا ستفعلون بدمشق لفلسطين وللبنان وللعراق، وهي بلدانٌ تُعاني من نزاعاتٍ تضطرون أحياناً لتوسيط إيران مع سورية من أجل تهدئتها!

إمّا أن يقومَ نظامٌ عربيٌّ لا تبعية فيه ولا عجز، أو يؤول الأمر إلى ما قاله نصر ابن سيّار الكناني أواخر العصر الأُموي:

تخلَّي عن رِحالِكِ ثم قولي

على الإسلام والعربِ السلامُ