حب.. مع وقف التنفيذ

TT

الاختلاط بين الجنسين هو نمط حياة، إن لم يكن جوهر الوجود في بلاد الأرز. الشبان والفتيات يتعايشون ويتمازحون على قارعة الطرقات كما في الجامعات والمقاهي والملاهي، لا فرق. فلا حواجز ولا حدود تمنع التواصل والتعارف في الأماكن العامة أو الخاصة. مجتمع مفتوح، ويفسح المجال لبناء قصص حب بمقدورها أن تملأ صفحات رواياتنا. أمر لا يوافقك عليه هؤلاء الشبان الذين لا يملون مما يسمونه «المصاحبة» والبحث عن الشريك، والوصول إلى نهايات محبطة في غالبية الأحيان. كلهم يشتكون من المحنة نفسها، فالفتيات يسألون «أين الرجال؟» والشبان يبادلونهم سؤالاً معاكساً.

دوامة البحث عن الشريك لم تعد في لبنان مزحة. وكل حفلات التعارف والاختلاط لم تعد تكفي لتحل أزمة تزداد غوراً. «المصاحبة» أمرها سهل أما «الزواج» فشأن آخر، يقول الشبان الذين يقضون سنوات وهم يتعارفون ويضيعون الفرص، حتى يشعرون أن لحظة الارتباط الجدي قد حانت، فيطلقون اجراس الإنذار في كل اتجاه. وتأخذ الأمهات والجارات والقريبات يبحثن عن الشريك أو الشريكة لفلذة كبدهم من دون جدوى. عاد دور الدلالات، والزيجات التقليدية، والمواصفات المسجلة على لوائح، كما لو أننا في نكوص حزين إلى خمسينات وستينات القرن الماضي. ما جدوى الحرية، إذن، إن لم تكن نافذة لبناء علاقات عاطفية متناغمة وعائلات سعيدة؟ وما فائدة هذا اللهو ليعود ويطلب المحروس من امه عروساً «على كيفها»؟ أو ما جدوى أن تتعرف الفتاة على من شاء لها من الشبان، وتنتهي بالزواج من مغترب جاء يبحث عن عروس الغفلة في يومي إجازة، تقبل به على علاّته بحجة انه يستطيع تأمين حياتها؟ ويتبين أن الحياة لم تعد مؤمنة لأحد، في ظل حالات طلاق وصلت إلى 30%. وبحسب المحاكم الشرعية، فإن من بين كل ثلاث حالات زواج في لبنان تنتهي إحداها بطلاق. هذا علماً بأن سن الزواج ارتفع في المتوسط إلى الثلاثين عند الإناث والخامسة والثلاثين سنة عند الذكور. أي أن مقتحمي القفص الزوجي أصبحوا أفضل تعليماً ـ بحسب الدراسات ـ وأكثر نضجاً، إنما ـ وهنا بيت القصيد ـ أقل قدرة على التفاهم والتواؤم.

القبول بزواج ترتبه الدلالة/ «الخاطبة»، أو بناء على نصيحة الجارة، في مجتمع مشرّعة فيه العلاقات كما في لبنان، مأساة تستحق أن تدرس. وكل كلام على الأزمة الاقتصادية أو شحّ عدد الرجال بسبب الهجرة، هو أمر غير مقنع بالكامل. فثمة شبّان مقتدرون يؤجلون ارتباطاً زوجياً قبل أن «يعيشوا حياتهم»، كما يقولون. وفتيات يرفضن الارتباط بعلاقة حب جدية، لأنهن «غير جاهزات» كما نسمع. وهي نغمة جديدة، القصد الظاهر منها التمتع بحرية كافية قبل تحمل المسؤولية. أما ما هو أبعد فيصعب فهمه، في ظل صمت علماء النفس والاجتماع، عن آفة تضرب جيلاً بأكمله. فهل من الممكن أن يلتقي هذا النزع الشديد للحرية مع الخضوع للزيجات التقليدية على أيدي الدلالات، مهما كانت الظروف؟

ثمة موشرات مخيفة. هناك شبان يتحدثون عن انعدام ثقة بوجود فتاة رصينة تحفظ اسمهم بعد كل الذي يعيشونه، لذلك فهم يلجأون لعائلاتهم لتدبر لهم «بنت بيت» مما يعني باللبناني «فتاة محافظة». وتقول أم إن ابنها أصابته عقدة بعد حياة صاخبة، ويفضل أن يتزوج من فتاة لا يعرف عن ماضيها شيئاً. في المقابل تشكو فتيات كثيرات من شبان مستهترين لا يرغبون في أكثر من تسليات عابرة، ويعفّون عن صلة وثيقة وعميقة، يحلمن بها مع رفيق العمر. اتهامات متبادلة وخطيرة بين من ينتظر منهم بناء المستقبل، فيما العلاقات القليلة التي تصمد، لا يبدو أنها تصل في أحيان كثيرة، إلى خواتيم سعيدة، حتى بتنا نسمع أن عقد الزواج في لبنان محدود الأجل، ويكاد لا يتجاوز خمس سنوات.

ونفهم من مجمل ما نسمع أننا في مجتمع يعيش ذكوره خيارهم ويدينونه، ويطالبون بحرية على الطريقة الأوروبية ثم يرجمونها عند أول مناسبة، ويحتفون بالفتيات العصريات اللواتي يتحدثن ثلاث لغات، لكنهم يريدونهن في نهاية المطاف كأمهاتهم، عاقلات قانتات، يحتملن ما تهتز له الجبال، على أن يكن عاملات ومنتجات بالتأكيد.

وتريد الفتاة أيضاً الشيء وضده، حين تتعلم وتكسب من عرق جبينها وتنتظر الرجل الميسور كي يصرف عليها بسخاء، وكأنما تضمر ضمناً ألا تكون شريكاً كاملاً ومتمماً له، بقدر ما تنتظر أن تتسلق تعبه.

من الصعب فهم مجتمع يحاول استنساخ النموذج الأوروبي بهذه الانتقائية الممسوخة، ويسعى لجمع المتناقضات تحت سقف البيت الواحد، أو تصور عائلة متوازنة قوامها شخصيتان يتصارع داخل كل منهما: شرق عتيق يسكنه، وغرب حديث لا يتوقف عن إغوائه. فكيف يمكن أن نفسر مثلاً، هذه الرغبة العارمة في تغيير الأسماء. فهذا عبد الله يسمي نفسه «بودي» ومصطفى يصبح بقدرة قادر «ستيف» فيما بات شائعاً أن إبراهيم هو «بوب» وفاطمة «تيما». وهؤلاء الذين نتحدث عنهم ليسوا أطفالاً في حضانات تدللهم معلماتهم، وإنما بالغون بعضهم انخرط في ميادين العمل، ويعرف عن نفسه باسمه الفني، وكأنه يخفي الأصل لصالح نغمة متفرنجة تعلي من مقامه.

هؤلاء المتفرنجون في بلادنا، وما أكثرهم، يعودون إلى بيوتهم، يغلقون ابوابها، ينبشون في ذاكرتهم السحيقة بلذة الذي يبحث عن كنز ثمين، فتطلع لهم تفاصيل العشيرة، وتعاليم الطائفة، ونصائح الأم، وصورة الأب بشواربه المفتولة ووجهه المتجهم، وينظرون إلى أنفسهم في مراياهم، فيتعجبون، كما نتعجب نحن أيضاً. فلو كان مصطفى قد صار «ستيف» فعلاً وإبراهيم «بوب» لما كنا اعترضنا، لكنهم ضيعوا أنفسهم وضيعونا، واختلط الأمر حتى بات فهمه أصعب من فهم قضية لبنان نفسها.

[email protected]