مزيد من الحديث عن أحوال العرب

TT

أولا: كنت أتمنى أن تنعقد قمة دمشق بحضور كل الرؤساء العرب، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مواقف وسياسات الدولة التي أصابها الدور، وفقا للحروف الأبجدية، لكي تستضيف القمة الدورية. ولست أرى فائدة ترجى من أي اجتماع إذا كان المجتمعون متفقين مسبقا على الموضوعات التي من المفترض أن يناقشوها، وإلا فكان يكفي التوقيع على القرارات بالتمرير. أما عندما تكون هناك خلافات محتدمة، بخاصة إذا كانت تتعلق بموضوعات حيوية تتصل بمستقبل أمة تتعرض لأخطار سوف تصيب آثارها الجميع، لا فرق بين من أحسنوا عملا ومن أخطأوا، لأن مصدرها في الواقع هم، ولا يريدون لأي منا خيرا، فإن الاجتماع يوفر فرصة للحد الأدنى من التوافق. ولذلك كان تصوري، وما ناديت به أن لقاءات القمة هي فرصة لكي يتصارح أهل القمة، في أجواء بعيدة عن الاحتفاليات والمراسم، فيعرب كل منهم عما يقلقه وعما يتمناه ويريده، فيصلون إلى رسم خطوط للتحرك لا تتناقض مع مصلحة بلد أي منهم، ويسدون ثغرات يمكن أن يستغلها الطامعون والمتربصون، ويتفقون على المصالح المشتركة. واعتقادي أن الصفاء الحقيقي لا يتحقق بأحضان مصطنعة أو بما يسمى تقبيل اللحى أو بالمجاملات، بل يتحقق ويحقق المصالح المشتركة عن طريق التصارح الذي يؤدي إلى التصالح، انطلاقاً من حقيقة أن ما يجمع هو في الحقيقة أعمق مما يفرق، وأن الحقيقة هي في النهاية توازن بين المبادئ والمصالح، وأن اختلاف الرؤى يجب ألا يؤدي إلى فقدان الرؤية.

وكنت أرجو ألا يقبل اللبنانيون، ولا غيرهم، أن تكون القمة رهينة القضية اللبنانية، خاصة بعد أن تحقق توافق على شخص الرئيس القادم الذي كان اختياره نتيجة حل وسط بني على أنه برغم قربه من فريق من الفرقاء فهو قادر على أن يقود البلاد بروح تجمع بين الإنصاف والجدية والالتزام. وما كان يجوز بعد ذلك أن تتجاوز الأمور هنا الاختيار لرئيس يصلح حكماً، إلى مشاحنات تراشقت خلالها الاطراف بالأرقام والاتهامات بحثا عن ضمانات هي في الواقع لن تتحقق إلا إذا حسنت النيات واتفق الجميع على احترام سيادة لبنان وإرادة شعبه وتغليب الروح الوطنية على الاعتبارات الطائفية الضيقة، وحب اللبنانيين للحياة في بلد آمن ومستقر ومنفتح، على سجالات تكون أحياناً امتداداً لأوضاع خارج الحدود.

كان هذا أملي، وكان أملي أيضاً أن تبذل كل الأطراف الجهد اللازم، ويقدم كل منها التنازلات المتوازنة التي تسمح بالحفاظ على الجوهر دون الدخول في متاهات، طالما عانينا من طرقها الوعرة وأشواكها السامة.

ولكن يبدو أن اللقاء الذي سينعقد بعيد نشر هذا المقال، سيكون بعيداً عما تمنيته. ولست أريد أن أخوض أكثر مما خضت في الظروف التي أدت إلى ذلك، رغم الجهود التي بذلها أمين عام جامعة الدول العربية وأطراف أخرى، وهي الجهود التي تعرضت لمحاولات تخريب من الداخل ومن الخارج أيضاً لأسباب قد ندرك بعضها بينما يبقى البعض الآخر يلفه الغموض.

ثانياً: لو تحقق ما كنت أؤمله، لكانت القمة قد استطاعت أن تتفرغ للقضية الأساسية وهي قضية فلسطين التي تتعرض- فوق كل ما تعرضت له- لعملية خداع أمريكية تكاد تكون فريدة.. فالرئيس الأمريكي الذي ينحاز بدرجة غير مسبوقة إلي إسرائيل الغاصبة المعتدية، يدعي اليوم أنه أول رئيس أمريكي يلتزم بقيام دولة فلسطينية. وهو ادعاء غير صحيح، إذ أن الجهود التي بذلها الرئيس كلينتون مثلاً كان هدفها الذي يعرفه الجميع، إقامة الدولة الفلسطينية، وقد بذل في هذا الشأن جهوداً قد نختلف حولها، ولكنها على الأقل كانت حتى إذا مالت نوعاً ما تجاه إسرائيل، فإنه كان ميلاً معتدلاً قابلاً لأن يتحول، على عكس ما أوضحته وتوضحه كل يوم مواقف وسياسات الرئيس بوش التي نذكر منها تعهداته المكتوبة الواضحة لشارون (الذي يرقد مثل عملية السلام بين الحياة والموت وهو أقرب إلى الموت)، بأنه غير مطلوب منه الانسحاب إلى حدود 1967 ولا تفكيك المستوطنات ولا السماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين، وباختصار يمكنه عدم الالتزام بالقرارات الدولية ولا بالقانون الدولي الذي نرى كل يوم كيف أن الإدارة الأمريكية الحالية تخالفه دون خجل، خارقة حقوق الإنسان، ومدمرة وطناً عربياً وفاتحة الباب لأطماع تدعي أنها تريد مقاومتها، وممزقة شعباً كان يعاني، ولكنه كان يحافظ على وحدته، مضحية بأربعة ألاف جندي أمريكي، ومليون مواطن عراقي بين قتيل وجريح ونازح ولاجئ، وتريليونات الدولارات، وخالقة المشاكل لجيران العراق.

كل هذا بينما إسرائيل تواصل عدوانها على كل الأراضي الفلسطينية، لا تفرق بين غزة التي تحكمها حماس، والضفة التي تحكمها السلطة الفلسطينية، لا يهمها إلا زيادة الفرقة والانقسام المأساوي، مهددة بأنه إذا عاد الوئام الفلسطيني فإنها سترفض التفاوض مع أبو مازن، كما لو كانت خلال كل جولات التفاوض قد تقدمت خطوة واحدة نحو الإقرار بالحقوق والتراجع عن سياساتها التوسعية العدوانية.

وقد قرأنا في هذا الصدد تصريحات لمسؤول إسرائيلي طلب عدم ذكر اسمه، قال فيها إن على محمود عباس أن يقرر إن كان يريد مواصلة المفاوضات مع إسرائيل أو يريد العودة إلى تحالف مع حماس لأنه لا يستطيع أن يحصل على الاثنين معاً.

كما صرح مسؤولون آخرون محذرين من أن المفاوضات التي استؤنفت في نوفمبر الماضي برعاية الولايات المتحدة ستتجمد على الفور إذا اتفقت فتح وحماس على تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة.

ثالثاً: اطلعت على رسالة وجهها عضو الكونجرس الأمريكي داريل عيسى، وهو من أصل عربي، إلى ناخبيه يشرح فيها ما تعرض له من تصرفات عنصرية معادية للعرب. وقد ورد في الرسالة ما يلي:

ـ إنه تعرض لحالات عنصرية معادية للعرب عن طريق الانترنت ووسائل الإعلام الأخرى، وأنه نتيجة لكتابات من شخص واحد، فقد رتب أعضاء من جبهة الدفاع اليهودية المتطرفة مؤامرة لتفجير مكتبه في كاليفورنيا، أفشلها مكتب التحقيقات الفدرالي قبل تنفيذها بأيام، كما كانت خطتهم تستهدف أيضاً أحد المساجد.

ـ إنه تعرض لهجمات عنصرية لأنه أعرب عن رأيه معارضاً قيام سلطات الأمن بالتفرقة في المعاملة على أساس العنصر Racial Profiling، وذلك تمسكاً بحماية الدستور لكل الأمريكيين دون تفرقة.

ـ إنه يعارض بنشاط القرارات والقوانين المعادية للعرب. ولأنه قام، مع زملائه أعضاء الكونجرس من أصل عربي، بصياغة مشروع قرار أثناء الحرب بين إسرائيل وحزب الله في 2006 يتضمن مطالبة الطرفين باتخاذ كل الإجراءات لتقليل عدد الضحايا المدنيين. وكانت كلمة «ضبط النفس» التي تضمنها المشروع محل نقاش طويل، وصمم اللوبي المؤيد لإسرائيل على حذفها، واستبدلوا بها عبارة تشيد بإسرائيل لجهودها لتقليل عدد الضحايا المدنيين. واعتبر الأعضاء المؤيدون لإسرائيل أن المطالبة بضبط النفس لحماية المدنيين صفعة لإسرائيل. وصرح العضو اليوت انجل من نيويورك بأنه لا يريد أن يكون وسيطاً أميناً، بل إنه يريد أن يكون صديقاً وحليفاً للحكومة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي يحاصرها أعداؤها. ويعلق عضو مجلس النواب داريل عيسى قائلاً إنه اتضح بعد ذلك أنه خلال حملتها العسكرية قامت إسرائيل بإلقاء مئات الآلاف من القنابل الانشطارية ما تزال حتى الآن تقتل مدنيين لبنانيين أبرياء.

ـ وأكد عيسى أنه لن تخيفه المخططات الإرهابية والكلام الحاد، لأنه ملتزم بتحقيق سلام عادل في الشرق الأوسط، وإعادة بناء العلاقات الأمريكية مع العالم العربي، لأنها علاقات هامة يجب عدم التخلي عنها حتى إذا بدأ الأمر صعباً في الوقت الحالي. وأنه يحتاج إلى مساندة كل الأمريكيين من أصل عربي أو إسلامي لكي يظل في الكونجرس الصوت القوى الذي لا يلين من أجل السلام العادل وتحسين العلاقات العربية الأمريكية.

ولا اعتقد أن هذا النداء يحتاج إلى تعليق، وهو إن لم يكن قد أتى بجديد، فإنه قد أكد مرة أخرى شراسة المعركة التي يخوضها العرب الأمريكيون من أجل إقامة جسور قوية من التفاهم بين العالم العربي والولايات المتحدة، تعبر عليها مصالح مشتركة حقيقية. ولعل ذلك يذكرنا بالكتاب الذي أصدره أستاذان من هارفارد حول اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الذي يصل تأييده لإسرائيل حداً يناقض المصالح الأمريكية ذاتها، وهي حقيقة نعرفها ولكن يبقى أن يزداد اقتناع الأمريكيين ذاتهم بها، عن طريق كشف المخلصين الصادقين منهم عن المستور.

ربما بقي أن نقول إن داريل عيسى ينتمي إلي الحزب الجمهوري، ويعتبر من المحافظين، وهم غير المحافظين الجدد الذين ألقوا ببلادهم في أتون تساقطوا هم فيه ولكن بقيت سياساتهم الخرقاء على الأقل حتى نهاية العام الحالي.