وأنا في الحقيقة لم أخدعه!

TT

جاءني يطلب عددا من خطابات التوصية إلى اصدقائي في استراليا.. فقد قرر أن يعمل هناك، ونظرت إليه من جديد كأنني لا أصدق ما يقول أو كأنني لا أصدق أن شاباً مصرياً قرر أن يعمل وحده وبدون معونة من أحد في هذه القارة السعيدة، وأنا استخدم هذه الكلمة الأخيرة استخداما حقيقيا.. فهي فعلا سعيدة وغنية.. وهي تتسع لمئات الملايين من الناس .. مع أن سكانها قليلون! ورأيت أمامي شابا نحيفا، متوسط القامة، أسود العينين، وكان شعره منكوشا، فلم يعجبني هذا الإهمال، ولاحظت انه قد امسك إحدى يديه بالأخرى.. فلم يعجبني انه خائف! وكتبت له عددا من الخطابات إلى اصدقائي من استراليا، وإلى أصدقاء من العرب.. وحاولت أن أفسر له سر سعادتي به.. عندما لمعت في عيني أضواء مدينة سيدني الجميلة وشوارعها الرشيقة ومحلاتها الفخمة وهواؤها المنعش الذي يهب من القطب الجنوبي، فيقابله الناس بالبلوفرات الصوفية الغليظة والأيس كريم.. وبدأ صدري يعلو ويهبط كأنني استنشق عبير مدينة كانبيرا الهادئة الوقور.. وأهم خطاب كتبته كان بعنوان: مستر جورج تشارلز ويليام.. وقلت له: إن هذا هو أهم خطاب، ويجب أن نبحث عن هذا الرجل فإذا لم تجده فافتح الخطاب وابعث به من جديد! ومضى شهر وشهر.. وستة أشهر.. وجاءني خطاب من هذا المواطن الشاب، وشعرت بشيء من الخجل، وشيء من السرور، فقد سرني أنه ذهب وأقام وصادق واستراح ونجح، وأخجلني أنني خدعته، فهذا المستر جورج تشارلز ويليام لا وجود له.. لا أحد بهذا الاسم الغريب وإنما هذا الخطاب كان موجها مني لهذا المواطن، فقد قلت له فيه: أنت الآن لست في حاجة إلى معجزة لكي تعيش، أنت موجود وهذا يكفي، وأنت لم تسقط بالبارشوت في قلب الجليد وإنما أنت في قارة غنية متحضرة.. وأنا عندما جئت إلى استراليا سنة 1959 كنت المصري الوحيد.. ولكن كان هناك 30 ألف عربي في ذلك الوقت، وأنت شاب ومندوب دولة عريقة ولها مستقبل عظيم.. وفي استراليا الآن سفارة لا تلجأ إليها إلا عند الضرورة.. وشبابك وعزيمتك وصبرك وأملنا فيك يدفعك إلى أن تكون مواطنا صالحا.. إن خطابي هذا ليس شيكا بلا رصيد .. فشبابك هو أعظم رصيد!.. وأنا في الحقيقة لم أخدعه، وإنما أردت ان أكون أول من يبعث إليه خطابا بدون طابع بريد!