إلغاء صناعة التأريخ

TT

ما هي أهم إنجازات التلفزيون؟ كثيرة هي الإنجازات، لا أعتقد أنه يمكن لأي مطالعة أن تحصرها أو تحددها. وكثيرة هي الشوائب. ولكن بين أهم ما فعله التلفزيون أنه ألغى، إلى حد بعيد وإن غير كاف، شيئاً يسمى الإشاعة. معظم التاريخ الماضي كان مبنياً على الإشاعة والرواية. وكان على الإنسان دائماً أن يعتمد على صدقية ما في تدوين التاريخ. لكن مَنْ يستطيع أن يجزم إلى أي حد كان ادوارد غيبون صادقاً ودقيقاً في «نشوء الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»؟ كم منا يمكن أن يجزم في بطولات هنيبعل؟ هل كل ما قرأناه عن «حصان طروادة» حقيقة أم خيال أم شبه خيال؟ هل كانت هيلينا الطروادية هي تلك المرأة العظيمة أم الممثلة روزانا بوديستا التي قامت بدورها في السينما؟

لم تغير الصورة الفوتوغرافية الكثيرَ في تدوين التاريخ. قبلها رسم لنا الفنانون المعارك الشهيرة بقدر ما تسمح طاقة أرياشهم وألوانهم. هناك لوحة واحدة لمعركة اوسترلتيز وصورة واحدة لمعركة واترلو ولوحة واحدة لوصول نابوليون إلى مصر. ثم جاءت الصورة السينمائية وتغير الأمر لكن لم تتغير كتابة التاريخ. كل فريق كتب التاريخ وفقاً لمصوريه: الأميركيون والغرب اعتمدوا مصوريهم، واليابانيون والألمان اعتمدوا أفلامهم. التلفزيون شيء آخر. الصورة ملازمة للحدث بكل ألوانه ودرامياته. أبراج نيويورك لا يمكن أن تترك للإشاعات والرواة. الكاميرا «الحية» هي التي تنقل صور الناس يرمون بأنفسهم من الطابق الثمانين. الكاميرا هي التي تنقل فورا مشهد الطائرة تدخل الجزء الأعلى من البرج. الكاميرا تنقل مباشرة مشاهد إعدام صدام حسين، بعدما تأكد الجلاد من أن وزن الرجل يناسب طول الحبل بحيث لا يفر الرأس بعيداً كما حدث لرأس برزان التكريتي. لا تطيق العدالة الأميركية ـ العراقية فكرة الفرق بين طول الحبل ووزن الرجل.

والمؤرخون قد لا يكذبون لكنهم يقصرون. هنا في التلفزيون، الصورة لا تبالغ ولا تستمرئ لعبة الخيال. تسجل وجوه الضحايا وتنقل كل يوم الاجتماعات الحربية التي يعقدها القادة العسكريون ببزاتهم ورتبهم، برئاسة الرجل القائد وهو يخطط لأم المعارك.