قمة دمشق: جلد للذات.. أم ضحك على الذات؟

TT

التنبه الفطن الى (خطيئة جلد الذات)، لا يعني (التورط في خطيئة الضحك على الذات). فلئن كانت الخطيئة الاولى نعيا للذات: مركب من العجز والاحباط والنواح.. واليأس من النهوض، فإن الخطيئة الثانية (استدراج لطيف) للذات الى حفر الخداع والتغرير والتخدير والتنويم: المفتوح الزمن، أي التنويم الذي لا يتخلله ـ ولا يعقبه ـ صحو ولا تيقظ.. ونتيجة الخطيئتين واحدة وهي (موت أمة): في ضجة النواح الاسيف على الذات، او في ضجة الضحك الأبله على الذات.

واذ ندعو (الخطاب العربي): السياسي والفكري والاعلامي الى التحرر والتطهر من هاتين الخطيئتين، فإن علينا ان نباشر هذا التحرر الآن. ونحن نكتب عن القمة العربية التي تنعقد في دمشق اليوم.

ومطلع القول: سؤال: هل كان لا بد من أن تنعقد القمة في هذه الظروف المكفهرة؟.. قبل سنوات تسع، وبين يدي احدى القمم العربية قلنا ـ في هذا المكان ـ بتاريخ 1/2 /1999: «لو أن لجنة عربية ـ على مستوى ـ قومي كلفت او طلب منها ان تتحرى (أسوأ الاوقات) لعقد قمة عربية لما ترددت في اختيار هذه الظروف من حيث انها الظروف الأسوأ.. ان القمة العربية مشروطة بشرطين اثنين أ ـ الشرط الأول هو (المناخ المناسب)، ففي ظروف غير مواتية تصبح القمة اداة لمزيد من التمزق والشقاق. وهذا استدبار للهدف، وتنكيس للمقصد: مقصد الوئام، وتوثيق العرى، والتنفس في جو موضوعي وأخوي.. الشرط الثاني هو (أجندة القمة)، فليس يقبل من قمة عربية بعد الآن: ان تغرق في ذات القضايا التي فشلت فيها عبر نصف قرن».. أليس عجيبا جدا ان ينطبق كلام كتب منذ سنوات عشر على الظروف الراهنة، وكأن العرب لم يبرحوا ـ قط ـ مكانهم النفسي والفكري والسياسي؟!!

وقد يقال: ولماذا التأجيل او تحري (المناخ الافضل)؟ والجو هو: ان الأهم والاجدى هو: الموضوع والنتيجة والنجاح، وليس المهم هو الوقت او الزمن!!. فليس هناك (زمن مقدس) في هذا المجال: ليس لنا ان نتصرف فيه بالتأخير والتأجيل: وفق معيار المصلحة الاعلى والارجح.. ولقد قال السيد المسيح ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوم (يقدسون الزمن) تقديسا..

ان عقد القمة في هذا الوقت محفوف بالمخاطر المتفجرة، ويكفي جديرا في هذا المقام قول أمين الجامعة العربية: «يوجد انقسام كبير بين الدول العربية».

شكليا: «انما جعل السبت من أجل الانسان ولم يجعل الانسان من اجل السبت».. وبالنسبة لاجندة القمة: ظل القادة العرب عقودا متتابعة يتداولون في القضايا ذاتها ولا سيما القضية الفلسطينية دون تقدم معتبر او حقيقي.. ومن شأن العقلاء من الناس الا يدوروا حول انفسهم، والا يبدأوا من حيث ينتهون: بلا تنويع في الحركة ولا النتيجة. وبلا قدرة على الخروج من دوامة الدوران العقيم.. وليس معنى ذلك: اهمال القضايا السياسية الاساسية (النمطية)، فنحن نعلم ان اهمالها او تجاوزها ـ باطلاق ـ انما هو (خدمة كبرى) للعدو الذي يفرحه اهمالها وتجاوزها.. وانما المعنى والقصد: تخصيب أجندة مؤتمرات القمة بقضايا: لا نهضة حقيقة للعرب بدونها، قضايا مثل: قضية البحث العلمي الذي هو ـ وحده يرسم خريطة التقدم في كل حقل.. وقضية (الصحة النفسية)!! للشعوب العربية وهي قضية كبرى لا تتصور (حياة حقة) بدونها. فالمؤشرات العلمية الميدانية تشير ـ بصورة فاجعة ـ الى ارتفاع متلاحق في معدلات الاضطراب العقلي والنفسي والاكتئاب والاحباط والشعور القائل بالضياع والتيه وعدم الانتماء وانعدام الاستبشار بالمستقبل لدى الجماهير العربية.. وهذه اجواء يتعذر فيها (نضج الإنسان)، كما يتعذر ـ من ثم ـ: الانتاج، والابداع، والأمن، والاستقرار.. وقضية البطالة المتراكمة المتزايدة والفقر المحطم.. وقضية مواجهة المستقبل بترتيبات اقتصادية جديدة مبدعة تواجه تحديات شتى في هذا الميدان.. تحديات مثل: دمج الشركات الكبرى دمجا يمنحها من الثقل والتأثير ما لا تملكه الدول. ومثل: العملات الجديدة، والتبدل في موازين القوى الاقتصادية ومواقعها الجغرافية.. ويلحظ ـ ها هنا ـ: ان هذه القضايا ـ ونظائرها معها ـ هي من صميم استراتيجية مواجهة التحديات الحادة والجادة التي يمثلها الكيان الصهيوني وغيره من الكيانات التي يتخوف العرب من بزوغها و(تعملقها).. فملاقاة هذه التحديات: بالعلم.. والتخطيط.. والبرمجة.. والعقلانية.. والعمل الموصول الحلقات والأنفاس.. هذا ـ وحده ـ هو السبيل الى مواجهة التحديات الاقليمية والعالمية، وليس السبيل هو: الاكتفاء بالتفجع والنواح، ولا (الهجرة النفسية) أو الجغرافية من الاقليم.

وبمعيار (نقد الذات) ـ لا جلدها ولا الضحك عليها ـ نقول: بعد انتهاء قمة دمشق بأسبوعين تحل ذكرى مرور 60 عاما على الاحتلال الصهيوني لفلسطين فكيف يجيب القادة والساسة العرب ـ بعد ستين عاما من الفشل ـ على السؤال التالي: الفاتح لـ (ملف الخيبة الطويلة الأمد)؟!.. إذا خجل القادة العرب من الجواب المخزي، فإن (الوقائع السافرة) لا تخجل.. والوقائع هي: ان الوضع اليوم أسوأ منه عام 1948. فالاحتلال الصهيوني قد تجاوز فلسطين كلها الى غيرها من الأرض العربية.. وكانت المذابح الصهيونية الأولى، على بشاعتها ـ محصورة في قرى محدودة: كدير ياسين ـ مثلا ـ. أما اليوم فقد اتسعت حرب الابادة لتشمل أقاليم كاملة مثل غزة.. وكان الفلسطينيون متحدين في الجملة، أما اليوم فقد صاروا ممزقين شر ممزق.. وكان العرب متحدين في الجملة، أما اليوم فقد صاروا ـ كما وصف القرآن بني اسرائيل من قبل ـ: «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى».. فقمة دمشق تنتظم ـ شكلا ـ الدول العربية كافة: ما عدا لبنان. وشكل اللقاء يوحي ـ في الظاهر بـ (اجتماع الكلمة) أو وحدة الصف، بيد ان الحقيقة هي ان اللقاء الشكلي يخفي مآسي التفتت القلبي والفكري والسياسي.. ما سبب هذه الخيبة التي امتدت 60 عاما في قضية قيل: انها قضية العرب الأولى المركزية؟.. أسباب الخيبة عديدة، نذكر منها ـ فحسب ـ سببين اثنين.. السبب الأول هو (العمى الاستراتيجي) أو التاريخي.. مثلا: في عام 1947 تقرر ـ دوليا ـ تقسيم فلسطين بين الفلسطينيين واليهود. وكان يتعين وفق المقياس الواقعي: الأخذ بـ (النسبية) ـ لا بالمطلق ـ في هذا المجال السياسي الاستراتيجي، بمعنى: احتواء أطماع الصهيونية في المستقبل بقرار شجاع وذكي وهو: تحويل موضوع التقسيم الى واقع عملي يصعب الغاؤه، لكن هذا القرار لم يتخذ، ولبث العرب يضربون في التيه نحو أربعة عقود أو يزيد، بل رزئت القضية بمزيد من الضياع بعد حرب أو مهزلة عام 1967.. ولا شك أن وراء ذلك (عمى استراتيجي) عربيا!!.. والسبب الثاني في خيبة القادة العرب على مدى ستين عاما هو (فقدان الصدق) في التعاطي مع القضية الفلسطينية.. ولنتجاوز هذا التعبير الملطف، لنأتي بتعبير جاف ولكنه أكثر تعبيرا عن واقع الأمر.. ان السبب الثاني في الخيبة هو (المزايدات والمتاجرات) بالقضية الفلسطينية، وهي مزايدات تمثلت في انقلابات عسكرية.. وانقلابات فكرية واجتماعية وسياسية قامت بها (أحزاب معروفة). وهي انقلابات ـ عسكرية ومدنية ـ كانت حصيلتها (الواقع العربي الماثل والأليم)، وعلى الرغم من هذه (التجربة المرة) لا يزال هناك من يصر على الخبط في الطريق المهلك نفسه: دون رؤية مبصرة للفتن المتلاطمة المتلاحقة، ودون وعي وتذكر للمصائر البائسة، ودون توبة تشفي التفكير والضمير: «أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون». فكيف يمكن نجاح قمة عربية في ظل هذا الركام المظلم من الخيبات السابقة، وفي ظل تخبط راهن يزيد الركام ثقلا، ويزيد الظلام ظلاما؟

يقال: إن المطالبة بتهيئة مناخات نفسية وسياسية أفضل للقمة العربية، يعني تأجيلها، وهذا يصب في الأجندة الأمريكية الاسرائيلية، وهاتان الدولتان لا تريدان للعرب وفاقا ولا تقدما ولا نجاحا.. ونحن موافقون على ان الغلاة في الادارة الامريكية الراهنة ـ وكذلك اسرائيل ـ لا يطيقون ـ قط ـ لقاء عربيا قويا وناجحا ولا سلاما حقيقيا يهيئ للمنطقة نهضة جادة: علمية واقتصادية واجتماعية الخ.. ومن المعروف ان هذا التوجه السيئ من هؤلاء الناس هو: أحد العوامل الكبرى العميقة وراء صعود موجات الهيجان والتذمر في المنطقة، وهما هيجان وتذمر ينتجان ـ بلا شك ـ مزيدا من تيارات التطرف والعنف.

لكن نقطة الضعف في تلك المقولة هي: ان انعقاد القمة في هذه الظروف المشحونة بعوامل الاحباط والخلاف، سيتسبب ـ هو ذاته ـ في مزيد من الانقسامات العربية، وتعدد المحاور، وتكاثر خلايا الشرذمات.. ومن لديه صبر فليصبر حتى يرى الأوضاع بعيد انتهاء قمة دمشق. فمن المتوقع (وهذا تصوير للاحتمالات وليس أماني تُتمنى): أن تلتهب المنطقة بالمهاوشات أو بالصراعات العربية.. هذه كلها نتائج وآثار للقمة تصب ـ بلا ريب ـ في الأجندة الأمريكية الصهيونية.. في ضوء هذا يمكن القول بأن سلبيات عدم عقد القمة: أخف مئات المرات من سلبيات عقدها.

وليس يتم الموضوع دون الكلام عن سوريا مباشرة، فليس من العقلانية، ولا الواقعية، ولا الأخلاقية أن يُكتفى ـ ها هنا ـ بالتلميح دون التصريح.. من قبل ـ وفي أزمتين كبيرتين ـ واجهتهما سوريا ـ محضناها النصح: بمنطق أنها دولة عربية شقيقة ذات وزن معروف.. كانت الأزمة الأولى عام 1998 حين أوشكت تركيا ان تواجه سوريا عسكريا بسبب موقف الأخيرة من قضية عبد الله أوجلان الزعيم الكردي المعروف.. وكانت الأزمة الثانية بعيد اغتيال رفيق الحريري.. ومجمل النصح الذي أسديناه لسوريا في الأزمتين هو:«على سوريا أن تتحلى بالعقل والحزم والمرونة أمام العاصفة التركية، وان تحسب لكل خطوة حسابا لا مكان للانفعال فيه. فلسوريا مصالح حيوية مع تركيا: مائية وحدودية وجيواستراتيجية. ثم ان دخول سوريا في صراع طويل مع تركيا مكسب هائل لاسرائيل.. وعلى القيادة السورية (هذا فيما يتعلق بالأزمة اللبنانية) أن تحزم أمرها وتسحب جيشها من لبنان، بالتطبيق الميداني لاتفاق الطائف، وفق جدول زمني نشيط الايقاع، معلوم السقف. فلئن شهدت لجنة كنج كوين الأمريكية للشعب السوري ـ في عهد الانتداب ـ بأنه محب للحرية والاستقلال، فإن الشعب اللبناني ـ كذلك ـ يعشق الحرية والاستقلال».

ولمزيد من الصراحة نقول: ان قضية (احتلال الجولان) هي ميزان الحركة الدبلوماسية السورية. ولذا يتوجب ان يستقر في وعي السوريين بأن الجولان لن تتحرر بدون الثقل العربي الذي لا يجوز التفريط فيه في سبيل الاحتفاظ بأوراق معينة مثل: ايران، ولبنان، والمقاومة الفلسطينية.. فالمهم في الأوراق هو توظيفها بمهارة في سياق الاستراتيجية الكبرى وهي: التحرك بالثقل العربي كله في المنطقة.. وليس من الذكاء السياسي والاستراتيجي: ان تكون العوامل المساعدة بديلا لـ(ركيزة الحركة الأم).. في ضوء هذا المنطق السياسي الاستراتيجي القومي طويل الأمد: لم يكن من مصلحة سوريا ـ قط ـ: ان تخسر وزن بلد عربي كبير ومؤثر ـ في حجم السعودية ـ من أجل أوراق جانبية ومؤقتة!!.