مواصفات الصلاحية الصحفية وكيفية قياسها

TT

مكالمات المعارف والأصدقاء، ورسائل وتعليقات قراء (وهم صاحب العمل الذي يدفع أجر جهدي في الكتابة) على مقالة السبت الماضي تشير لاهتمامهم بقضيتين.

الاولى موازنة المحرر بين مسؤوليته لحملة اسهم الصحيفة (ولا يعرف معظمهم) بأولوية زيادة التوزيع وبين الالتزام المهني المحايد.

الثانية، رغبة التعمق في آليات ملكية الصحافة وأدواتها في اقتصاد السوق الحر؛ ودراسة العوامل التي جعلت من فليت ستريت نموذجا لحرية الصحافة الملتزمة، في اغلب الاحوال، بمسؤوليتها في غياب تام لقوانين تنظيم الصحافة.

الملاحظ ان القراء يرون قرارات وزراء اعلام الجامعة العربية الاخيرة «عدوانا» على السلطة الرابعة لمنعها من فحص سجل الحكومة في تلبية مطالب المواطن الذي انتخبها (او لم يسمح له بالانتخاب) كبديل عن المعارضة التي تحاسب الحكومة في الديموقراطيات البرلمانية.

اود ايضا التوضيح بان التزام الصحفي مهنيا بالحيادية لا علاقة له بالنظام السياسي، بقدر ما يعبر عن ثقافة احترام المهنة «لصبي» تعلم الحرفة على يد اسطى تعلمها من اسطى اقدم. فالنجار المهني مثلا لا يترك منضدة صنعها عرجاء بساق اقصر من الباقين، لان في ذلك انقاصا لكرامته وفق اخلاقيات ثقافته المهنية professional ethics. وكغيري من ابناء جيل الحرب العالمية الثانية دخلنا شارع الصحافة قبل اربعين عاما «كصبيان» احترفنا على يد الاسطوات الكبار. لم تكن الصحافة وقتها تدرس بالطباشير على سبورة الفصل الجامعي، وإنما اتقناها بالممارسة وتنبيه «الاسطي» الي اخطائنا.

اخلاقيات الثقافة المهنية لم تقتصر على فليت ستريت، بل كان هناك جيل من اسطوات الصحافة في مصر مثلا كالأستاذين التوأمين علي ومصطفى بك امين . وبخلاف «الهواة» من كتاب صحافة اليوم، اكاديميين واطباء ورجال اعمال وساسة، تفرغ اسطوات صحافة الامس، وصبيانهم، للمهنة كقدر واسلوب حياة دون التفكير في الارتزاق من مجال آخر. اسلوب حياة البحث 24 ساعة عن المعلومة والوقائع، دون اجندة مسبقة، بغرض اكتشاف قصة تقرأ او تستمع.

في الصحافة المحترفة ما ينشر نسميه «قصة» Story، فالصحفي حكواتي. الحكواتي تعلم الحرفة بالتلقي عبر الاجيال ومعها شروط ممارستها الاخلاقية؛ فلا يزيف احداث التاريخ، بل يجتهد بتفسيرها بلغة ومفاهيم متلقي العصر الذي يعيشه.

وكحكواتي، يلتزم الصحفي المهني بالوقائع واقوال الشهود ويوازن بينها بحياد تاركا للقارئ او المستمع حرية استخلاص النتائج. ورغم حريتها واستقلالها، تتعرض صحافتنا لفحص مجهري يومي في ايدي منظمات ليس لأي منها سلطان على الصحف.

معظم هذه المنظمات وكلها مستقلة غير حكومية، تفحص ما نشر وبث بـ methodology او اسلوب عناصر للتحليل مشتقة من ارشادات مفوضية التحقيق في الشكاوى الصحفية، ومصلحة متابعة الاتصالات، وميثاق اتحاد الصحفيين. الصحفيون كثيرا ما يتجاهلون الارشادات ـ التي وضعوها بانفسهم ـ ليس عن عمد، فلا اجندة مسبقة لمعظمهم، وانما تكاسلا عن التأكد من صحة المصدر؛ او لضيق الوقت قبل ارسال القصة، او تكاسل المدققين على الديسك عن التأكد من مطابقة صياغة الخبر للمواصفات. فهل يسمح مهندس الفحص لطائرة بالإقلاع دون التأكد من مطابقة المحركات وأجهزة الملاحة للمواصفات ؟

هناك مواصفات محددة للقصة الصحفية، كسلعة، تباع لقارئ اشترى الصحيفة، كمستهلك له حقوق. اهم المواصفات الفصل التام بين الخبر والرأي (شاملا الافتتاحية والتعليقات، والأعمدة ). الرأي بطبيعته انتقائي حيث يختار كاتبه ما يدعم دعوته. ولذا، لانهم كصحفيين، بشكوى مؤسسة او جماعة من انحياز تعليق ضد مصالحهم، فكاتب العمود يتلقى اجرا مقابل ما يثير الجدل.

الخبر يخضع لمواصفات الصلاحية، كالالتزام بالحقائق والمعلومة المؤكدة، والحياد، وابقاء الخبر في السياق in context حفاظا على تكامله integrity فخبر ك: «بدأ التحالف عملية عاصفة الصحراء بقصف بغداد» هو خارج السياق لإسقاطه معلومة رفض صدام حسين انهاء احتلاله للكويت. والتوازن يكون بتقديم وجهات نظر التيارات التي يغطي الخبر تفاعلها، مع استخدام مفردات مماثلة لوصف احداث مماثلة. فتفجير قنبلة وسط مدنيين لا يكون «ارهابا» في مكان و«مقاومة» في مكان آخر.

المراسل الصحفي المهني لا يدلي برأيه او يفضل سرد narration طرف على آخر داخل الخبر، كانتقاد محرر في البي بي سي لبنك تسليف عقاري صباح الاربعاء، فالهيئة خدمة عامة يمولها المستهلك (بدفع رخصة سنوية) يجب ان يلتزم محرروها بتقديم المعلومة بحياد لا التاثير على المستمع. واذا تغلب طابع الرأي على الخبر ينقل محرر الديسك القصة من قسم الاخبار الى صفحة الرأي. لا يوجد قانون يرغم التايمز مثلا على نشر «الراي الآخر» لكن اخلاقيات المهنة تحبذ نشر الرأي الاخر حتى بعد ايام. الطريف ان الصحف المحافظة كالتلغراف تلتزم بهذا التقليد بينما تتجاهله صحف اليسار التي تعتلي منبر المثل والأخلاق يوميا. اما البي بي سي فملتزمة «بالتوازن» ببث الرأي الآخر حسب اتفاقية التمويل بالرخصة.

استثناء الرأي من مواصفات الصلاحية الخبرية لا يبرر اكاذيب لا تحترم عقل القارئ. فصحيفة عربية لندنية ادعت ان غالبية موظفي ادارة بوش «يهود يؤيدون اسرائيل» دون ان يقدم كاتبها دليلا واحدا على ادعائه.

او كاتب بريطاني واسع الخيال يعتبره العرب بطلا، قدم مشاجرته مع سائق اجرة افغانستاني كنموذج صراع بين الشرق «المغلوب على امره» والغرب «المستعمر»، والحقيقة ـ حسب رواية الشهود ـ ان السائق اوسعه ضربا حفاظا على رزق اولاده بعد «استهبال» الكاتب بمحاولة تخفيض الاجر بمساومة بيروتية الطابع.

منظمات فحص الاخبار، عند متابعتها شكاوى القراء والمستمعين، غالبا ما تكتشف ان كلا من طرفي صراع (كالفلسطينيين والإسرائيليين مثلا) يتهم الصحافة بالانحياز للطرف الاخر، مستشهدين احيانا بالخبر نفسه.