هوبير فيدرين والمأساة الكبرى

TT

هل ابتدأ القادة الفكريون والسياسيون للغرب يدركون مدى خطورة الصراع العربي ـ الإسرائيلي على بلدانهم بالذات وليس فقط على المنطقة؟ ربما. هذا الحكم ينطبق على الأقل على الجناح المستنير والإنساني فيهم لا على التيار الأرعن للمحافظين الجدد.

وهوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا السابق لمدة خمس سنوات هو من النوع الأول لحُسن الحظ. إنه أحد الحكماء في فرنسا حالياً، بالإضافة إلى بعض الآخرين من أمثال جان دانييل رئيس تحرير مجلة «النوفيل اوبسرفاتور».

وقد طرح أخيراً السؤال من بابه الواسع عندما قال: ماذا استفدنا من كل مبادرات السلام السابقة بدءاً من أوسلو وانتهاءً بمؤتمر أنابوليس، مروراً بخارطة الطريق والرباعية وسوى ذلك؟ لا شيء. كل هذه الجهود والمبادرات ذهبت أدراج الرياح. فلماذا كل هذا الانسداد التاريخي يا تُرى، ثم كل هذا الدم المراق الناتج عنه؟

في رأيه ان الأمور واضحة، لكن لا أحد يجرؤ على الحسم. فأغلبية الإسرائيليين منذ سنوات عديدة تؤيد قيام دولة فلسطينية، ومع ذلك فلا أحد يترجم ذلك إلى حقيقة واقعة. لماذا تتردد الجماعة الدولية في إعلان هذه الدولة العتيدة على غرار ما حصل في كوسوفو؟ نضال الفلسطينيين أو مأساتهم أكبر وأقدم بكثير من نضال شعب كوسوفو مع احترامنا له وفرحنا بدولته.

لا يتردد هوبير فيدرين، وهنا تكمن شجاعته ونزاهته، في تحديد الجهة المسؤولة عن هذا الانسداد التاريخي الخطير، إنها اليمين القومي الديني الاستيطاني المؤيد لإسرائيل الكبرى. صحيح أنها تمثل أقلية في إسرائيل، لكنها أقلية ناشطة وعنيفة تخيف الآخرين بعد أن قتلت رئيس الوزراء السابق اسحاق رابين.

ويرى فيدرين أن هذه الأقلية انتصرت على الأغلبية داخل الشعب الإسرائيلي بسبب عامل خارجي ألا وهو: تغلب الجناح المتطرف في المنظمات اليهودية الأميركية والمؤيد لحزب الليكود على الجناح المعتدل الذي كان يريد التوصل إلى تسوية مع العرب والفلسطينيين. وزاد الطين بلة انضمام الأصوليين المتعصبين في الولايات الجنوبية الأميركية وعددهم أربعون مليوناً إلى هذا الليكود بالذات. ثم كانت الطامة الكبرى عندما تحالف كل هؤلاء مع جماعة المحافظين الجدد وعلى رأسهم ريتشارد بيرل الذي يقول: «السلام مقابل السلام، وليس السلام مقابل الأرض»

على هذا النحو حصل الانسداد التاريخي في المنطقة وفرغت أوسلو من معناها وجدواها ولم يعد هناك أي مجال إلا للصراع المفتوح والدموي. وهذا ما أرعب الاتحاد الأوروبي الذي يعرفه هوبير فيدرين جيداً، فلم يتجرأ على التحرك بالقوة اللازمة. وفي هذا السياق الصعب والمعقد، جاء انتصار «حماس» لكي ينزل برداً وسلاماً على قلوب المحافظين الجدد. منذ اتخذوه حجة أو ذريعة لنسف كل أمل في السلام العادل الناتج عن التفاوض. بهذا المعنى يمكن القول بأن التطرف يدعم التطرف ويشد من أزره. لكن نزاهة هوبير فيدرين تمنعه من وضع المسؤولية الأولى على «حماس»، التي لا يحبها بالطبع، إنما على الجناح اليميني المتطرف الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الأصولي ـ المذكور آنفاً.

هو الذي ينسف الحل ثم يقول: الحق على الأصولية الإسلامية و«حماس»!

لكن الوزير الفرنسي يدين أيضاً الانقسامات بين الفلسطينيين والمزاودات وأخطاءهم في الرؤيا والعمليات الانتحارية.. فكلها ساهمت في تقوية مواقع المتطرفين في الجهة الأخرى. وهكذا وصلنا إلى الجدار المسدود.

وما هو الحل إذن؟ كيف يمكن فك هذا الانسداد التاريخي؟.. عن هذا السؤال يجيب الوزير الفرنسي قائلا: الحل اقتربنا منه في «طابا» قاب قوسين أو أدنى. فهذه الاتفاقيات التي أجهضت في آخر لحظة عام 2001، هي أعلى ما يمكن أن يصل إليه الفلسطينيون وأقصى ما يمكن أن يسمح به الطرف الآخر الذي قطع أمله في تشكيل إسرائيل الكبرى.

لكن هل حقاً تراجع اليمين الإسرائيلي عن هذا الحلم؟ هنا نجد أنفسنا نختلف مع الوزير الفرنسي المحترم. فكتاب ريجيس دوبريه الصادر أخيراً في العاصمة الفرنسية، الذي قطع أرقاماً قياسية في المبيعات، يقول لنا بأن إسرائيل لا تزال تراهن على بلع الضفة الغربية وتشكيل إسرائيل الكبرى. لكن يخطئ مَن يظن أن قطاع غزة هو جزء منها. إسرائيل لا تريده، إنما تريد الضفة فقط، وسوف تهضمها على مراحل طيلة الثلاثين سنة القادمة بعد تفريغ شعبها منها أو قسم كبير منه.. إذا كان كلام ريجيس دوبريه صحيحاً، فإن هذا يعني أن المسألة محسومة، وأن الاستيطان السرطاني هو سيد الموقف.