ما هو الأساس .. العدل أم المصالح؟ ومن يدفع هذا الثمن الغالي؟

TT

 بصفتي مواطناً عربياً ومسؤولاً سياسياً سابقاً في الجزائر يهمني جداً ما يدور بين الدول الاوروبية بشكل خاص والغرب بشكل عام مع العالم العربي والاسلامي، وبهذه المناسبة اصبح ما يدور في ايران وما يجري للمعارضة الايرانية ومجاهدي خلق موضع اهتمامي في الآونة الاخيرة. ولا شك ان القارئ العربي يعرف ان سمة الارهاب هي الاداة الأكثر فاعلية لتقييد المعارضات. وهذا ما ينطبق على المعارضة الايرانية ايضاً، حيث ان تصنيفها في خانة الارهاب الامريكية والاوروبية ادّت الى تقييد نشاطها وعدم السماح لها بأن تقوم بواجبها السياسي والثقافي والانساني. لهذا السبب ومنذ فترة تابعت الاحداث السياسية والقانونية في هذا المجال وأودّ أن اسرد مشاهداتي في هذا المجال للقارئ العربي.

ففي يوم السادس من شهر مارس (آذار) الجاري شاركت في جلسة بمحكمة العدل الاوروبية في لوكسمبورغ التي كانت تنظر في شكوى رفعتها منظمة مجاهدي خلق الايرانية ضد الاتحاد الاوروبي بسبب قيامها بادراج هذه المنظمة في قائمة المنظمات الارهابية.

وما شاهدت في هذه الجلسة يستحق التركيز عليه واستخلاص دروس سياسية، قانونية وإنسانية منه. حيث ان جماعة معارضة من العالم الثالث تستطيع من خلال التمسك بالمبادئ ان تتحدى الاتحاد الاوروبي بشكل عام وبريطانيا العظمى بشكل خاص وترفع الشكوى ضدهما.

وسبق لي أن شاركت في جلسة أخرى لهذه المحكمة في فبراير (شباط) عام 2006. وكانت المحكمة نفس المحكمة والشكوى نفس الشكوى والأطراف أيضا وما جرى في ذلك اليوم كان مماثلا لما جرى هذه المرة. وبعد جلسة تلك المحاكمة بعشرة اشهر اصدرت المحكمة قرارها في 12 ديسمبر(كانون الأول) عام 2006 بإلغاء اسم منظمة مجاهدي خلق من قائمة المنظمات الارهابية في اوروبا. وكان الحكم صريحا وقويا في مدلولها. حيث نص الحكم بأن له اثرا رجعيا في كل القرارات التي اتخذت من قبل الاتحاد الاوروبي في هذا المجال، وفي نتيجته النهائية نص القرار بأن على الطرف الآخر، اي الاتحاد الاوروبي، تحمّل أتعاب المحاماة والمحاكمة بنسبة اربعة اخماس هذه الاتعاب. فلم يبق شك في ان الاتحاد الاوروبي سيقوم بشطب اسم مجاهدي خلق من القائمة السوداء. لكننا شاهدنا وبكل استغراب بأن الاتحاد الاوروبي لم يذعن امام حكم القانون بل بدأ بانتهاج سياسة اللفّ والدوران، فتارة أعلنوا ان هذا الحكم يرتبط فقط بالقرارات التي سبقت الحكم، وحيث ان قراراً جديداً اتخذ من قبل الاتحاد الاوروبي في شهر مايو (أيار) عام 2006 اثناء مداولات المحكمة (اي بين تاريخ الجلسة في فبراير وتاريخ اصدار الحكم في ديسمبر عام 2006)، فان الحكم لا يشمل هذا القرار الجديد! ومرة اخرى تحدثوا بان حكم المحكمة لا يشمل صلب الموضوع ليعني ان منظمة مجاهدي خلق ليست ارهابية، بل يشمل فقط كيفية تطبيق هذا الحكم على هذه المنظمة. واعلنوا بعد ذلك بأننا سنقوم بتصحيح مسارنا في هذا المجال حتى ينطبق على مدلول الحكم.

هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان مئات من كبار رجال القانون في العالم، بينهم شخصيات من امثال اللورد اسلين الذي كان سابقاً رئيس هذه المحكمة، اعلنوا في ندوة اقيمت بهذا الصدد، بان هذا الحكم يعتبر ثورة في القانون الاوروبي لانه يحدد ويصحح كيفية إدراج المنظمات والاشخاص في قائمة المنظمات الارهابية؛ واعلنوا بانه لا شك ان على الاتحاد الاوروبي ان يرضخ امام القانون وامام حكم المحكمة ويشطب مجاهدي خلق من قائمة الارهاب.

كما ان اكثر من الف نائب في برلمانات الدول الاوروبية اصدورا بيانات اعربوا فيها عن تأييدهم للحكم الصادر وطلبوا تنفيذه وشطب اسم مجاهدي خلق من القائمة. كما ان بعض اللجان في البرلمانات الاوروبية ـ من بينها لجنة القضاء في البرلمان الهولندي، ولجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الايطالي، واللجنة الاوروبية في البرلمان الدنماركي، اكدوا رسمياً على هذا الطلب.

بعد ذلك دخلت على الخط شخصيات سياسية من الدرجة الاولى في الدول الاوروبية من امثال طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا سابقا، ومستشارة المانيا أنجيلا ميركل، وباروسو رئيس اللجنة الاوروبية وخافيير سولانا مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي، وعديد من وزراء الخارجية كما في فرنسا وبلجيكا وهولندا.. ليعلنوا عدم استعداد الدول الاوروبية والاتحاد الاوروبي لتنفيذ حكم هذه المحكمة.

قابلت شخصيا عديدا من سفراء الدول الاوروبية لدى الاتحاد الاوروبي في بروكسل كسفراء المانيا، والدنمارك، وايطاليا، وبولندا، والتشيك وليتوانيا وغيرهم، وشرحت لهم ان عدم تنفيذ هذا الحكم معناه عدم التزام الدول الاوروبية بالقانون. واذا نظرنا بان الاتحاد الاوروبي مجموعة لا واقع لها سوى الاسس القانونية فسيكون معنى هذا الرفض سحب البساط من تحت أقدام المجموعة الاوروبية لدى الآخرين. كما ان الاتحاد الاوروبي يحاول اقامة اتحاد مع الدول الواقعة جنوب حوض البحر الابيض المتوسط، ولن يكون اساس هذا الاتحاد سوى حكم القانون فاذا رفض الاتحاد الاوروبي في عقر داره تنفيذ القانون وحكم المحكمة فماذا يبقى من القاسم المشترك الذي بني عليه هذا الاتحاد؟ كما التقيت برئيس لجنة الامن والقضاء في اللجنة الاوروبية فرانكو فراتيني وشرحت له ايضاً مضاعفات عدم تنفيذ حكم المحكمة. وكان هناك عديد من الشخصيات السياسية ونواب البرلمان الاوروبي ونواب البرلمانات الاوروبية وكذلك رجال القانون الذين كانوا على اتصال مستمر ومباشر بالمسؤولين في اوروبا لشرح هذا الموضوع. لكن ومع الأسف الشديد لم نستطع دفع الاتحاد الاوروبي للاذعان للقانون، حيث ان المجلس الوزاري لوزراء البيئة في اوروبا والذي عقد في 28 يونيو (حزيران) عام 2007 نشر القائمة الجديدة وكان اسم منظمة مجاهدي خلق ايضا موجوداً في تلك القائمة.

هنا بدأت المسيرة مرة اخرى. وانتهت بجلسة المحكمة التي بدأت هذا المقال بها، اي الجلسة التي عقدت يوم 6 مارس الجاري بلوكسمبورغ.

وما جرى في هذه المحكمة يؤكد احقية موقف مجاهدي خلق ومحاميهم. حيث ان الطرف الآخر (اي محامي الاتحاد الاوروبي ومحامي بريطانيا الذين كانوا مع مندوبين سياسيين من الطرفين ومن وزارة الخارجية البريطانية، وكذلك مندوبين من اللجنة الاوروبية وحكومة هولندا)، لم يستطع الرد على اسئلة القاضي حول سبب عدم تنفيذ الحكم السابق للمحكمة. وحول الاسباب التي ادت الى ادراج اسم مجاهدي خلق مرة اخرى في القائمة، كما انهم لم يجيبوا عن سؤال حول الحكم الذي صدر عن المحكمة الخاصة البريطانية بتاريخ 30 نوفمبر(تشرين الثاني) 2007 بضرورة شطب مجاهدي خلق من القائمة البريطانية. وحيث ان بريطانيا كانت الدولة الاوروبية المطالبة من الاتحاد الاوروبي بادراج اسم هذه المنظمة في القائمة، فلما حكمت المحكمة البريطانية بابطال ادراج هذه التسمية في بريطانيا، فمعناه انه لا يبقى اي سبب لاستمرار بقاء هذا الواقع في الاتحاد الاوروبي ايضاً.

ومن الضروري ان اشير بمزيد من التفصيل الى حكم المحكمة البريطانية، لأن هذا الحكم صدر بعد جلسات دامت اكثر من اسبوع، وفي 144 صفحة و362 بنداً. ومن المفارقات ان المدعي الذي رفع الشكوى امام المحكمة البريطانية لم يكن منظمة مجاهدي خلق نفسها، بل كان خمساً وثلاثين نائبآً من مجلسي النواب والأعيان في بريطانيا. وجاء في حكم المحكمة ان وزارة الداخلية يجب ان تقدّم تقريراً الى البرلمان البريطاني حول كيفية تطبيق هذا الحكم. فالحكومة البريطانية استفادت من حقها في طلب اعادة النظر لكن هذا الطلب رفض من قبل المحكمة الخاصة. فالحكومة لجأت الى محكمة الاستئناف، ولم تتخذ محكمة الاستئناف حتى الآن قرارها لكن ما جرى في جلسات هذه المحكمة ايام 18-20 فبراير 2008 والمؤشرات الاخرى تشير الى ان الحكم هذه المرة ايضاً سيكون لصالح مجاهدي خلق.

اذن، فكل ما يتعلق بالجانب القانوني واضح تمام الوضوح، ويمكن التنبؤ بنتيجة مداولات المحكمة الاوروبية والحكم الذي سيصدر منها  قريبا لكن السؤال الكبير هو لماذا تهرّب الاتحاد الاوروبي من تنفيذ حكم محكمته؟ وهل يستطيع هذه المرة ايضاً انتهاج نفس السياسة حتى اذا كان حكم المحكمة حكما باتاَ؟

الجواب هو ان برأيي ليس من السهل على الدول الاوروبية التمادي في سياسة النعامة، خاصة بعد ما وضع مجاهدو خلق سياسة الصبر والمثابرة واللجوء الى الآلية القانونية لسنوات طوال وصدور احكام قوية لصالحهم. اريد ان اقول ان في نهاية المطاف يجب على الحكومة البريطانية وعلى الاتحاد الاوروبي الرضوخ امام حكم القانون.

لا شك ان ايران مرشحة للتغيير والتغيير الذي يليق بتاريخ ايران وبالشعب الايراني، وان التغيير الواقعي الموضوعي الوحيد الذي يمكن لنا ان نفكّر فيه ونعمل من اجله هو تغيير ديمقراطي يتحقق على يد ابناء الشعب الايراني. والطرف الوحيد الذي يدعو الى هذا التغيير ويعمل من اجله ويقدر على تحقيقه هو مجاهدي خلق والمقاومة الايرانية. فما دام يضع الغرب عراقيل امام تحرك هذه القوة ويجعل لها قيودا فمعناه انه يمنع من تحقيق هذا النوع من التغيير في ايران. ولا مجال للنقاش ان اهم مانع وقيد وضعه الغرب أمام المقاومة الايرانية ومنظمة مجاهدي خلق للتحرك من اجل تحقيق هذا التغيير هو وضعهما في قائمة الارهاب سواء في امريكا او اوروبا، ومن ثم محاولاته لمنع خروجهما من هذه القائمة. فلنفترض انهم اعلنوا قبولهم بحكم المحكمة هذه المرة، وقاموا بشطب اسم المجاهدين من قائمة الارهاب، حتى في هذه الحالة ايضا يبقي سؤال: من يدفع ثمن عدم رضوخ الدول الاوروبية امام حكم محكمتهم لمدة عامين؟ لان ثمن هذه السياسة كان غالياً، ليس فقط لمجاهدي خلق وللمقاومة الايرانية بل للشعب الايراني ايضاً. وليس فقط للشعب الايراني بل للشعب العراقي بشكل خاص ولجميع الشعوب العربية والاسلامية بشكل عام، وللعالم اجمع.

ولا يسع المجال ان ادخل تفاصيل ما حلّ بالشعب الايراني خلال العامين الماضيين. فقط اشير الى بعض النقاط منها:

ـ  مئـات الاشخاص تم اعدامهم على المشانق في مختلف المدن الايرانية. واعتقال مئات الآلاف من ابناء هذا الشعب بحجج واهية من قبيل «سوء ارتداء الحجاب» او تهمة عدم التمسك بالقوانين الاخلاقية، وتشكيل اكثر من ثمانية ملايين ملف في كل عام بالجهاز القضائي لهذا النظام وغيره.

ـ اكثرمن مائة وخمسين مليار دولار من ثروات الشعب الايراني تم هدرها على يد النظام الحاكم في ايران.

ـ موت اكثر من اربعين الف شخص في حوادث المرور في الطرق الايرانية، حيث ان ايران اصبح لها الرقم القياسي في العالم. واعلنت وكالة الصحافة الفرنسية ان اكثر من مائة الف شخص ماتوا في حوادث المرور خلال خمس سنوات ماضية في ايران!

ـ تقدم النظام الايراني في مشروعه لامتلاك السلاح النووي، وزيادة تعنته امام النظام العالمي، لأنه عند ما يرى ان الغرب لا يراعي قوانينه الخاصة ويحتفظ بالمعارضة المؤثرة الرئيسية للنظام في قائمة الارهاب فانه يأخذ الرسالة قوية بان ليست هناك ارادة سياسية جادة لفرض الضغوط عليه في المجال النووي ايضاً، خاصة انه يعرف جيداً ان معرفة العالم باسرار مشروعه النووي جاءت بفضل قيام مجاهدي خلق بكشف النقاب عن هذه المشاريع خلال السنوات الاخيرة.

ـ ومن الطبيعي انه لو كانت المعارضة طليقة اليد في فضح جرائم النظام واثارة الاحتجاجات ضده لما كان النظام قادراً على مواصلة ممارساته المشينة ضد شعبه.

ـ ويطيب لي ان اشير الى آخر تطور حدث في هذا النظام ايضاً وهو قضية الانتخابات الاخيرة: إذ شاهد العالم مرة اخرى عدم امتثال هذا النظام للأسس التي تحكم العلاقات السياسية بين السلطة والشعب، ومبدأ تداول السلطة؛ ناهيك من انه لم يسمح حتى لأجنحة في النظام بالمشاركة في مسرحية الانتخابات. واكثر من ذلك، قام باقصاء اشد الناس ولاء لولاية الفقيه ولشخص ولي الفقيه في النظام لسبب وحيد، وهو انهم لم يقبلوا عمود خيمة النظام ـ على حد تعبير رفسنجاني ـ مائة في المائة. ولمّا بلغ السيل الزبَى كما يقول المثل، دخل الاتحاد الاوروبي على الخط ليعلن رئيس الاتحاد الاوروبي بان «هذه الانتخابات لم تكن حرّة كما انها لم تكن عادلة ومنصفة». هنا يجب توجيه سؤال دقيق: من هي الجهة التي ايدت هذا النظام في الغرب حتى اصبح الأمر هكذا؟

وفيما يتعلق الامر بالعراق، فيكفي ان نلقي نظرة عابرة الى ما جرى فيه خلال العامين الماضيين على يد النظام الايراني من عمليات قتل وخطف وتشريد وتهجير الآلاف من العلماء والنخب الفكرية والعلمية وحتى رجال الدين من الشيعة والسنة وسرقة اموال هذا الشعب، حتى نعرف مدى الاثر السلبي لدهس المبادئ القانونية وابقاء المقاومة الايرانية في القائمة الارهابية. لا شك اننا اذا اردنا ان نواصل هذه الجردة، فاننا سنذهب بعيدا في ما حل خلال هذين العامين بفلسطين ولبنان والدول العربية والاسلامية الاخرى من خلال تدخلات النظام الايراني فيها. ولنطرح سؤالنا مرة اخرى مَنْ يدفع هذا الثمن الغالي؟

* رئيس وزراء الجزائر السابق