عالم صغير يصغر

TT

أتذكر السفر في ستينات وسبعينات القرن الماضي، إذا هم الواحد بالسفر ـ ولو للسياحة ـ جاء الأقارب كلهم لوداعه، الأعمام والأخوال وأبناء العمومة وأبناء الأخوال والأقارب والجيران والمعارف، وكانت العادة أن يقيم أهل المسافر وليمة ذات قدر وقيمة، على شرف وداع المسافر العزيز الذي سيذهب إلى لبنان لقضاء إجازة الصيف، أو للدراسة في مصر ـ وربما إلى أوروبا وأمريكا. وكان المكتوب والرسائل الوسيلة شبه الوحيدة للاتصال بين المسافر وبين أهله وأحبابه، كانت الدكاكين والبقالات هي العنوان البريدي في الغالب: البلد الفلاني ـ القرية الفلانية ـ بقالة العروبة لصاحب البقالة الحاج أبو علي، ومنه إلى والدي العزيز أبو فلان حفظه الله، ثم تضيف شكر خاص في أسفل ظرف الرسالة لموزع البريد: «شكرا لموزع البريد»، في محاباة مكشوفة، ورجاء واضح بألا يلقي رسالتك تلك في سلة المهملات. كان توجيه الشكر محصورا لموزع البريد في بلادنا، ولم نشكر موزع البريد الأجنبي، لأننا نثق بأنه سيوصل الرسالة ويقوم بعمله على أكمل وجه من دون شكر، فلا شكر على واجب، لذلك لا توجد: THANX TO THE MAILMAN . في أسفل المظروف.

قبل العودة من السفر، تكون أخبار وصولك قد سبقتك، غالبا ما يتسابق الأصدقاء الأقرب بالإعلان عن موعد رحلتك، فأنت العزيز الغائب الغالي، لذا فقد وصل أعز أصدقائك خبر عودتك، وربما يكون قد وصله حتى قبل علم الأهل أنفسهم. يتسابق الجميع للمطار، وتتردد عبارة: «من بيروح يستقبل فلان؟»، تصل أرض المطار لتجد من في استقبالك أكثر ممن ودعوك، ويبدأ جدول للعزايم، أول عزيمة عند الأهل فالأعمام ثم الأصدقاء والجيران وهكذا. عودة فلان من السفر هو حديث القرية، وغالبا ما كان القادم يحمل قصصا ومغامرات وحكايات من رحلة «العجائب» التي عاد منها للتو: لندن وما فيها، ولبنان وما حوت، ومصر وعجائبها، وأمريكا وتقدمها. قصص عادية بمقاييس اليوم، لكنها كانت العجب العجاب في حينها: أفواه فاغرة، وآذان صاغية، وقلوب ملتهبة، وخيالات سارحة. كانت قصص المسافر لا تخلو من «البهارات»، واختلاق المغامرات، وخصوصا العاطفية منها. كانت الاتصالات الهاتفية نادرة الحدوث، وتعتمد في الغالب على البلد الذي تسافر إليه، أذكر أنني كنت أطلب المكالمة من فرنسا للكويت عام 1980 وأنتظر بالساعات، وأحيانا بالأيام، حتى أحصل على الخط للاتصال بالكويت.

ما الذي جرى في العقود الثلاثة الماضية؟ ثورة عارمة لم تتوقف في مجال الاتصالات والمواصلات. العارفون بالتكنولوجيا يقولون بأنها لا تزال في بداياتها، بل يقولون بأنها لم تبدأ بعد.

ما أبعد الليلة من البارحة، اليوم يسافر الواحد منا ويعود من دون أن ينتبه له أحد، سماوات مليئة بالطائرات، ومطارات مليئة بالملايين، تصور أن عدد الرحلات بين دبي والكويت عشر رحلات يومية، مثلها بين دبي وبريطانيا. يمكن أن تفطر في الكويت وتتغدى في مسقط. ويمكن أن تتغدى في الكويت وتتعشى في الرياض عن طريق الطائرة حصرا، فالعشاء بعد الغداء في إحدى العاصمتين بالسيارة تؤخره الجوازات، التي لم تلغ بالبطاقة بعد. أذكر أن السفر بين الكويت والسعودية في السبعينات كان يتم من دون جوازات أصلا، وفي عصر ثورة المعلومات والوحدة الخليجية يلزم مواطنو الدولتين باستخدام جواز السفر حتى الآن. التصريحات تقول بقرب انتهاء محنة المسافرين بين البلدين، لعل وعسى!

دارت بي الأفكار، ذهبت بي يمنة ويسرة، توقفت عن تغيرات في عادات السفر والترحال، وعلاقات الناس بالأسفار، كيف قضت التكنولوجيا على ثقافة السفر، وكيف أننا نرحب بما جاءت به هذه الثورة العجيبة من تغيرات..

استسلمت لأفكار الأسفار، فكتبت عنها، لأني ـ ببساطة ـ لا أريد أن أكتب عن القمة العربية.