5 سنوات بعد الحرب: التمثال الذي هوى.. الأمل الذي يتلاشى

TT

انتخى صدام حسين بشعبه كي يدافع عن العراق من هجوم «الغزاة»، ولان التلفزيون الرسمي وادبيات حزب البعث كانت تخبر العراقيين يوميا ان صدام هو العراق، اختار غالبية العراقيين ان لا يستجيبوا للرجل الذي لم يدرك ابدا ان شعبا يعيش ذلا يوميا على يد سلاطينه لن يدافع عنهم كما لن يدافع عن وطن لايقوم الا على استعباد ابنائه وانتهاك انسانيتهم. لم يدرك الرجل كما ان معظم ورثته لا يدركون ان الاوطان لا معنى لها عندما يكون المواطنون مهانين ومسحوقين، المواطن هو الذي يصنع وطنا جيدا والوطن هو المكان الذي يعيش فيه المواطنون بحرية وكرامة كافيتين كي يدافعوا عن وجوده اذا ما تعرض هذا الوجود الى الخطر.

كم كان عظيما وهائلا وصادما ذلك الحدث حيث هوى التمثال على الارض كصاحبه معلنا انه كان مجرد وهم وان «جمهورية الخوف» بنت عظمتها على الخوف، وعلى الانتظار... ولكن مجددا كان العراقيون بحاجة الى من يعينهم على اسقاط التمثال، جاءت الدبابة الامريكية وسحبت التمثال ليهوي، اعلن احتلال العراق في لحظة تحريره فتوقف العراقيون عاجزين حتى هذه الساعة عن تعريف ما حدث، ونحن امة اعتادت ان تعيش على اليقين حتى لو كان كذبا ولا تقبل بأنصاف الحلول حتى لو كانت هي الحل، والعراقيون موعودون بانتظار قد يطول، بين من يعدهم بان الخلاص سيأتي بعد القضاء على الارهاب ومن يعدهم بانه سيأتي بعد خروج الاحتلال، مازال العراقيون عاجزين عن ان يدركوا ان لا خلاص سيأتي اذا انتظرناه على قارعة الطريق...

منذ عام 2003 والغرب يعج بنقد شديد لتلك الحرب، لأسبابها، او لكيفية ادارة ما تلاها، ولهيمنة الوهم على خطابها، او للصور الخارجة منها، الوسط الثقافي وحتى الشعبي في الغرب لم يعد يرى العالم بعد حرب العراق كما كان يراها قبل الحرب، تغيرت الكثير من المفاهيم والتصورات وحصل انقسام هائل في تلك المجتمعات ادارته عبر فضاء النقد المتاح لكل شخص هناك، الوعي الغربي يعيد انتاج ذاته عبر نقده لذاته بعد الحرب وبغض النظر عما اذا كنا نرى هذا النقد جيدا لنا ام سيئا فهم لا يصنعون وعيهم بانتظار ان نحكم عليه، نحن العاجزون عن ان نعي ذاتنا.

والسؤال هو، اذا كانت حرب العراق قد فعلت فعلها في حوار الغرب مع ذاته وصارت تؤثر في سلوك الناخب الامريكي والبريطاني فضلا عن حوار النخبة المثقفة هناك، ماذا فعلنا نحن الذين حصل الحدث في ارضنا وبين ظهرانينا وكنا شهوده ووقوده، مادته وفضاءه المباشر؟، اي مراجعة حصلت لتاريخنا ولمفاهيمنا ولوعينا ولمكاننا في العالم؟، كم مثقفا عربيا جاد بكتاب او رؤية جديدة حول ذلك اليوم المفصلي، يوم هوى التمثال؟ وكم فضائية عربية سمحت بحوار حقيقي غير سرد القصة مشوبة بخطاب ايديولوجي عن الأخيار والأشرار؟، وكم جامعة عربية اطلقت مؤتمرا حول معاني سقوط التمثال في ذلك اليوم وبهذه الطريقة؟

اختار العرب وهماً يستجيرون به من قوة الصدمة، تحدثت الفضائيات عن «مقاومة» العراقيين الباسلة لـ«الغزاة» وكيف تسببت خيانة بعض العسكريين بسقوط «بغداد» وهي العبارة المفضلة لدى الكثير من القنوات العربية والعراقية لإيهامنا بان بغداد كانت حية قبل ذلك التاريخ، ثم اخترع البعض كذبة المقاومة التي ارادت ان تتخلص من عبء صدام لتقاتل الامريكيين وتطردهم فاذا بهذه المقاومة تحيل ما تبقى من البلد دمارا وتقتل مع الغزاة عشرات الالوف من العراقيين قبل ان تجر البلاد الى اول حرب اهلية في تاريخها.

مجددا حل الخطاب الديماغوجي والتفسيرات الايديولوجية وصراخ الغوغاء محل التفكير العقلاني ونقد الذات والتاريخ ومراجعة ما حصل وطرح الاسئلة الصعبة والثقيلة على ضمائر البعض، اختارت الغالبية العيش في حالة الانكار، بل والسعي نحو مزيد من الدمار تحت شعار محاربة الاحتلال، ليخرب ما تبقى من العراق وليمت من يمت من ابنائه وليمح هذا البلد من التاريخ والجغرافيا، ما دام الامريكيون سيعجزون عن تحقيق اهدافهم وذلك هو النصر بنظر هؤلاء، ومع هؤلاء عرفنا وأدركنا ان نظام صدام لم يكن استثناء بل ان زواله هو الاستثناء...

في 9 نيسان كان هناك خوف وصدمة وعجز لدى معظم العراقيين عن ادراك ما حصل، وكانت هناك مشاعر مختلطة، ولكن كان هناك بعض من الامل رغم صدمة رؤية الجنود الامريكيين بين ظهرانينا ورغم ثقل التعبئة الاعلامية لقنوات «الصراخ» العربية، تآمر الكثيرون على الامل كما تآمروا على انكار ما حصل وجعله مجرد فصل اخر من اجترار اكاذيب حول الماضي وتردادها بتكرار حتى يصدقها الجميع. كانت امنية معظم العراقيين ان يعيشوا حياة هادئة بلا مزيد من الجنازات و«شهداء» الحماقات، بلا مزيد من الرعب واليتامى والثكالى والارامل، لم يصنعوا لأنفسهم حلما كبيرا بل كان في الغالب حنين بسيط لماض ليس بالقديم عن وداعة الناس وتعايشهم وتطلعهم الى المستقبل، كان حمل الماضي ثقيلا وآلامه كبيرة حد ان اصبحت معظم العوائل العراقية منكوبة بالموت او الفقر او الغربة او الخوف... ما لم ندركه ان كوارث الماضي لا تستحيل سرابا بغياب صانعها، فقد حفرت عميقا في وعي الانسان وفي بنية المجتمع، كما ان صانعها كان جزءا من ارادة اكبر وخرافات اوسع تعيد انتاج نفسها مجددا، وهي للاسف عندما تفعل ذلك يموت مزيد من العراقيين.

لقد تواطأ الكثيرون في صنع مأساة العراق، وتواطأ العراقيون في تكريس هذه التراجيديا اللامنتهية والتي لن تنتهي حتى يتحقق شرطان، الاول ان نمتلك القدرة على نقد تاريخنا والوقوف بقوة عند اللحظات الكبرى كلحظة سقوط التمثال ونسائل انفسنا عن مدى تواطؤ كل منا في صنع الديكتاتور، ان نعترف بأنه ليس ظاهرة منسلخة عن مجتمعها وبيئتها بل هو مركب كامن في دواخلنا وهو نتيجة لنمط من التفكير والتربية والتثقيف، والشرط الثاني ان نتوقف عن الانتظار وان لا نتخلى مجددا عن حريتنا لمنقذ موهوم يصنع من بؤسنا مجدا مزيفا قد يطول الوقت قبل ان نكشف زيفه، وقبل ان يأتي منقذ اخر يساعدنا على الاطاحة به.