حتى القاعات

TT

قلة من الحكام العرب يعرفون حال الأمة مثل العقيد معمر القذافي. فهو شاهد على تطورها وتحررها واندفاعها نحو الوحدة منذ أربعين عاما قضاها يقود بلدا في حجم نصف أوروبا من خلال حكم الشعب. لذلك ضحك وأضحك عندما تطلع في وجوه الحاضرين وقال: لا شيء يجمع بيننا سوى هذه القاعة.

في غياب التلفونات وبسبب ندرة السيارات كان يتولى النعي في القرى رجل يصرخ بصوت عال ثم يقول: «الحاضر يعلم الغائب». وكأنما أراد العقيد أن يعلم الغائبين أيضا بنعي الوحدة العربية فرفع الصوت عاليا. على أنه كان أولى به أن يشرح للأمة لماذا وصلت إلى هنا باعتباره الحاكم الأقدم. ولماذا قبل أربعين عاما لم نكن نقبل بأقل من الوحدة الفورية الشاملة من المحيط إلى الخليج والآن نتوسل أهل الأرض على مساعدتنا في إبقاء شيء من مظاهر الوحدة في لبنان والعراق وفلسطين.

وطمأن الزعيم الليبي الحاضرين إلى أن مصيرهم سوف يكون شبيها بمصير صدام حسين. ولا بدَّ أنه ضمن لنفسه مصيرا آخر. لقد أنهت ليبيا بكل بساطة كل ما يمكن أن يثير المخاوف. فككت مشروع القوة النووية وبعثت إلى المستودعات بالترسانة الكبرى وحلت جميع قضاياها المعلقة مع مجلس الأمن ورفعت عنها الحظر الأميركي والأوروبي، وانصرف العقيد عن الوحدة العربية التي لم تعد سوى وحدة قاعات إلى تحقيق الوحدة الأفريقية.

وكان في هذا القول نقص في الدقة. حتى القاعات لم تعد تجمع. لقد كان نصف القادة العرب غائبين. وكانت حاضرة الخلافات العربية في أبهى تعبيراتها وتجلياتها. أمة تتمزق من الصومال إلى غزة. لم يكن هذا حال فلسطين عندما عبر ياسر عرفات بمنظمة التحرير إلى الأرض من مضائق أوسلو. لم يكن هذا حال العراق الذي فقدت البصرة أمنها بعد خروج جيش الاحتلال البريطاني وتحولت إلى ساحة تصفية نهائية ما بين حكومة المالكي وجيش المهدي. لم يكن هذا حال لبنان غير القادر على فتح مجلس النواب وإخلاء وسط البلد من المخيمات الوطنية المناضلة التي لم تعد تجد من ينام فيها. لقد بالغ العقيد القذافي عندما قال لم يعد يجمع بيننا سوى هذه القاعة. إنه لم يتأمل جيدا حال هذه الأمة.