قراءة في «ملامح من تاريخ الملك عبد العزيز» (1ـ 2)

TT

لم أجد في كل ما قرأت عن شخصية الزعيم الفرنسي ديغول، أفضل مما كتبه السياسي والأديب والدبلوماسي أندريه مالرو عنه في كتابه «أنا وديغول أو السنديانات التي يقطعون»، فلقد أتاحت له نقاط الاقتراب من تلك الشخصية العبقرية أن يرصد الكثير من ملامحها الإنسانية العفوية في أقصى درجات وضوحها.. فالملامح الإنسانية للشخصيات العبقرية لا يقدر على رصدها، وكتابتها، والتحدث عنها بدرجة من الصفاء والوضوح أكثر من الملتصقين بها، والمتابعين القريبين منها..

ولذا كان اهتمامي كبيرا بمحاضرة الأمير سلمان بن عبد العزيز التي ألقاها مساء السبت الماضي بجامعة أم القرى بعنوان «ملامح من تاريخ الملك عبد العزيز في مكة المكرمة»، فزوايا الرؤية التي يلتقط منها الأبناء ملامح آبائهم زوايا خاصة جدا قد لا تتوفر للكثيرين، فما بالك حينما يكون الأب ذلك الملك العبقري عبد العزيز، ويكون الابن الأمير المثقف سلمان بن عبد العزيز، فنحن رغم كل ما كتب عن شخصية الملك عبد العزيز نظل في حاجة إلى المزيد، خاصة ما يتعلق منها بالرؤية من الداخل لتلك الشخصية العظيمة، التي يتفق الجميع على أنها من أهم الشخصيات في القرن العشرين..

في هذه المحاضرة أورد الأمير سلمان الكثير من الإضاءات المهمة المتصلة بشخصية والده، ومنها قوله: «كنا نهاب عددا من الرجال من خاصته الذين كان يكلفهم بإيقاظنا ومتابعتنا يوميا في أداء الصلاة من هيبة الوالد، لعلمنا أنهم يتلقون أوامر صارمة منه لمتابعتنا»، وكيف خصص الملك عبد العزيز ـ بعد ذلك ـ مدرسة في القصر لتعليم أبنائه، وكان يكلف أحد خاصته بالوقوف أمام المدرسة لتفقدهم عند الدخول وإبلاغ الوالد بمن يتغيب أو يتأخر عن الحضور..

وهذه الصلاحية التي منحها الملك عبد العزيز للمعلمين والمشرفين على تربية أبنائه تؤصل لمبدأ تربوي مهم حفلت به التربية الإسلامية، حينما كان الخلفاء يهتمون بمكانة المؤدبين اهتماما عظيما، فلقد كتب الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين علي بن الحسن الأحمر قائلا: «يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع لك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته».. وختم الرشيد رسالته بالقول: «قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة».. فلقد كان الملك عبد العزيز على وعي بالمسؤوليات التي سيضطلع بها أبناؤه من بعده في المحافظة على هذا الكيان الكبير، وما يمكن أن يلعبه التعليم في تحقيق الكفاءة وتنمية الاستعداد، وفي الاستشهاد الذي أورده الأمير سلمان مثال على مكانة التعليم في نفس القائد العظيم، ففي إحدى زيارات الملك عبد العزيز لمدرسة الأمراء رأى على ثوب أحد أنجاله بقعة حبر حاول إخفاءها عن نظر والده، فقال له الملك عبد العزيز: «لا تخفها، هذا عطر المتعلمين وطلبة العلم».

يتبع غدا

[email protected]