حد عاوز قيادة؟

TT

يطوف القادة الفلسطينيون كل أسبوعين تقريبا على دولة عربية، عارضين عليها لعب دور المصالحة بين فتح وحماس ولم الشمل الفلسطيني، والدخول في «بيزنس» القضية. ورغبة من بعض الدول العربية في الحصول على دور قيادي، فإنها تقبل باستضافة فريقين من أعضاء فتح وحماس. مستوى تمثيل الفريقين (فتح وحماس) يتغير، كما هو الحال في تشكيلات فرق كرة القدم. فمرة يرسل الطرفان الفريق الأول المتمثل بالرئيس محمود عباس وخالد مشعل، ومرة يرسلان فريقا من فرق الدرجة الثانية، ومرة من فريق الناشئين، حسب حجم الدولة المضيفة والمبالغ التي سيكافأ بها الفريق.

لجأ الفلسطينيون إلى المملكة العربية السعودية، ووقعوا اتفاق مكة. وبدأ العرب يتحدثون عن تزايد وتعاظم الدور السعودي، وكأن صك القيادة والريادة في العالم العربي تمنحه الفصائل الفلسطينية، لا مقومات الدولة ذاتها. بعد السعودية، دخل الفلسطينيون مصر آمنين مطمئنين لمعرفتهم بأنهم قادرون على (تشليح) القيادات المحلية من شعبيتها أو منحها وسام الالتزام بقضية العرب الأولى. فالتقى المسؤولون المصريون مع الفريق الأول لكل من فتح وحماس، وذلك قبل تفجير الحدود مع مصر وبعد التفجير أيضا. ولم يلتئم شمل الفلسطينيين، ولكن الصحف في مصر تناست جريمة انتهاك حرمة الحدود وصفقت لعودة الدور المصري باستضافة الأشقاء بفريقهيما الأصليين، اللذين يلعبان على المستوى العالمي.

ولما لم تؤد المباحثات السعودية ولا المصرية إلى المصالحة المرجوة، بدأ الفلسطينيون في البحث عن بلد عربي آخر يصلح خصومتهم، فذهب الفريق الاحتياطي أو (الفريق الثاني) إلى اليمن، الذي يطمح بالطبع إلى الريادة والقيادة في العالم العربي. والتقى الجمعان، وتصافح الفرسان، وأعلنت اليمن البيان: بأن من ههنا من اليمن السعيد، ينطلق لقاء تقارب البعيد، وتنصب الأعراس لمصالحة فتح وحماس. وها هي المبادرة اليمنية، رغم غياب الرئيس اليمني، تجد لها مكانا في خطابات القمة العربية المنعقدة في دمشق.

ليست اليمن هي آخر دولة عربية ستعقد فيها مصالحة بين فتح وحماس. فبعد أن يطوف الفلسطينيون على الدول العربية الغنية التي تدفع (كاش)، سيذهبون بعد ذلك إلى السودان وموريتانيا وإلى دار كل من يبحث عن دور في السياسة العربية.

كثير من الدول العربية التي تظن أن لديها عجزا في ميزان الشرعية الداخلية، تحاول استعارة القضية الفلسطينية أو استضافة فصيل من الفصائل لدعم شرعيتها. لبنان لديه رمضان عبد الله شلح، ومصر لديها خط ساخن مع قيادات فتح المختلفة، وسورية لديها خالد مشعل، والأردن يستضيف كل ممثلي الفصائل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ألم يدفن زعيم الجبهة الشعبية جورج حبش في الأردن؟

النقطة الأساسية هنا، أن الفلسطينيين (استحلوا) هذا الدور الذي يمنحهم لقاءات مع ملوك ورؤساء دول عربية كبرى. حتى أن زعيم أي فصيل فلسطيني يستطيع اليوم أن يقابل رئيس دولة عربية، ويذاع هذا اللقاء على شاشات التلفزيون الرسمي، مدعوما بعبارات الدور الذي تلعبه هذه الدولة في دعم قضية العرب الأولى. يكسب الرئيس العربي شرعية داخلية من موضوع فلسطين ومكانة إقليمية في ما يخص موضوع الدور. وفي الوقت نفسه، يكسب قائد الفصيل الفلسطيني زخما وتأييدا شعبيين في الداخل الفلسطيني وفي الشتات.

قدرة القضية الفلسطينية، أو من يظنون أنهم حاملوا لوائها، على توزيع الاتهامات بالعمالة والخيانة أصبحت اليوم غير مسبوقة، لدرجة أن «بيزنس» القضية أصبح عنصرا تخريبيا إضافيا في العمل العربي الداخلي والخارجي. فالكاتب الفلسطيني هو أهم كاتب عربي، والشاعر الفلسطيني هو أفضل شاعر عربي، والمفكر الفلسطيني هو أبرع مفكر عربي. يكفي أن تكون فلسطينيا، أو ممن يدعون أنهم من أنصار القضية، حتى تصبح نجما تلفزيوننا وضيفا دائما على الموجات الإذاعية والشاشات الفضائية. يكفي أن تكون فلسطينيا ليكون لديك الحق في أن «تبخ» في وجه من يختلف معك، ويصفق لك الحاضرون الخائفون من تهمة التخوين الجاهزة.

القدرة الفلسطينية على التخويف وصلت ذروتها عندما كسرت حماس الحدود بين مصر وغزة، ومع ذلك وجدت تأييدا شعبيا في مصر لهذه الفعلة غير القانونية. كيف لأحد أن يقبل امتهان حدوده، بل ويقابله بالتصفيق! إن حدثا كهذا لو وقع في سياق آخر، لبرمت له الشوارب وأخرجت له السيوف من أغمادها.. لكن هذه الهبة الوطنية لم تحدث لأن شرعية الوضع الداخلي قد بنيت، وعلى مدى خمسين عاما، على قدسية القضية بما فيها تقديس كل ما له صلة بها حتى لو كانت صلة مضرة. الفلسطينيون اليوم يستطيعون تخويف وتخوين أي نظام عربي، وهذا ليس صنيعتهم، بل إن الأنظمة التي لم تجدد شرعيتها الداخلية، وبنتها على مقاومة الخارج بحجة الدفاع عن القضية الفلسطينية، هي التي منحتهم هذا الحق.

القضية الفلسطينية اليوم لم تعد قضية، أصبحت «بيزنسا» محليا وإقليميا ودوليا، يرتقى بها إلى سلم النجومية. القضية الفلسطينية لن تتقدم خطوة طالما أنها أصبحت «شو بيزنس» Show Business، وليست قضية شعب أو أرض. والأنكى أن النموذج الفلسطيني قد بدأ تقليده في الكثير من القضايا العربية، فها هم القادة والزعماء اللبنانيون في رحلات مكوكية إلى العواصم العربية والغربية. تحولت القضية اللبنانية من قضية سياسية ممكنة الحل إلى «شو بيزنس».. وفي هذا تفوق، بلا شك، اللبنانيون على الفلسطينيين، على الرغم من اشتراك قياداتهم في ارتداء البدلات ذاتها من بيوتات الأزياء العالمية الإيطالية والفرنسية.

هذا حديث واضح عن قضية يتحاشى نقدها كثيرون. وإن تحدثوا عنها كان حديثهم لفا ودورانا وغموضا. حديث يشبه حارات المدن العربية القديمة، بيوت متلاصقة ومتداخلة، لا تسمح بالحديث الواضح المباشر. نحن منكشفون على بعضنا البعض، نعرف الكثير عن جيراننا، ونشتم رائحة الغسيل المنشور على شبابيك الحارات العربية، لذا نلمح ولا نصرح، نعرف ولا نتحدث. الكلام المتعرج كحاراتنا والمصاحب لكل قضايانا، وفي قلبها القضية الفلسطينية، هو داؤنا العضال. نتحدث فقط بوضوح عندما نخرج من الحارة وأزقتها.. ساعتها نكون قد هربنا من قبضة شيخ الحارة وقبضة فتواتها وقبضاياتها.

القضية الفلسطينية تحولت أمام أعيننا إلى «بيزنس» يمارس تحت الطاولة وفوقها، على غرار ممارسات السوق السوداء والاقتصاد الخفي. نعرف مثلا أن هناك مجموعة أسر غزاوية كانت تدير الأنفاق غير الشرعية التي تربط غزة بمصر، وأن الدخل الذي يدره النفق الواحد كان يساوي مليون دولار شهريا. ولكن لم يتحدث أحد عن هذا لأن هناك من يسلطون علينا سياط التخوين وخدمة مصالح العدو. لا ألوم من لا يكتبون بوضوح لأنهم تربوا وترعرعوا في أزقة الصحافة العربية التي تروج لخطاب شيخ الحارة أو لشكاوى السكان المغلوب على أمرهم، ولكن همسا.

هذا المقال قد لا يروق للبعض، لأن شرعية القلم غدت مربوطة بالدفاع عن القضايا لا نقدها، مدفوعة بالهتاف لا بالمواجهة، مدفوعة بالعقد لا بالنقد. التفكير خارج منظومة التصفيق، هو أمر مطلوب استحداثه في العقلية العربية اليوم إذا كنا نريد أن يكون لكتاباتنا ونقدنا معنى.