لا خوف عليهم ولا هم يحزنون..

TT

حظيتُ بنفحات من برامج عقد بها الشباب والأطفال العرب قمّتهم، في مخيمات، أو حتى في استوديوهات تلفزيونية. وكان لهذه القمم الشابّة أبلغ الأثر في تقييم ما يجري على الساحة الرسميّة في هذا المفصل التاريخي الذي أراده أعداؤنا أن يكون دمويّاً ووحشيّاً في تاريخ أمتنا. لقد أجمع الشباب العربيّ من موريتانيا إلى الكويت أنّ القمم التي سبق أن عُقِدَت «لم تُحقّق الآمال التي كانت معقودة عليها» ولم تضع «آليّات عمل لتنفيذ قراراتها»، ولذلك تمّت مقاربة هذه القمّة من قِبَلهم بأريحيّة تامّة بغض النظر عن الخلافات المتأججة هذه المرّة أيضاً. عبّر الشباب والأطفال أيضاً عن أهميّة لقاء العرب حين تكون هناك خلافات بينهم، خاصة وهم يلتقون قادة أجانب تلطّخت أياديهم بدماء العرب، وكأنّ الشباب والأطفال يحاولون إعادة البوصلة للتقييم العربيّ لقضايا العرب الأساسية، وهذه مسألة عظيمة الشأن بالفعل، ألا وهي فرز الأولويّات، وعدم الغرق في الهوامش، وضرورة عدم إهمال أهميّة إيجاد قاسم مُشترك في معالجة القضايا العربيّة عبر تكثيف اللقاءات والنقاشات والمباحثات في فترة الخلافات، وليس العكس. ولا شكّ أنّ انزياحاً ما قد حدث خلال العقد الماضي لمركزية قضيّة فلسطين بين القضايا العربيّة نتيجة حملة منظّمة من قِبَل أعداء الأمّة حوّلت أولوية الصراع منذُ عقود إلى صراع بين العراق وإيران، والجميع يعرف الآن الثمن الذي دفعه كل من تورّط بالانجرار إلى هذا الصراع الذي تلاه الصراع بين بلدين شقيقين هما العراق والكويت، فنسي العرب فلسطين بعد أن انجرفوا نحو خلافات قاتلة أدّت إلى فرض معاناة هائلة على الشعبين لينتهي المخطط بمحاصرة بلد شقيق وثمّ احتلاله بعد تضخيم مقصود لأخطاره على جيرانه برهنت الأحداث لاحقاً، وبعد مقتل أكثر من مليون عربيّ في العراق، أنّها غير موجودة أصلاً، بل أنّ الهدف الأساسي من ترويجها من قِبَل الأعداء كان لزرع الخلافات بين القادة العرب إلى حدّ القطيعة وتشتيت جهودهم عن القضيّة المركزيّة ألا وهي الصراع على أرض فلسطين وهويتها. ويجري الآن تشتّيت الجهد العربي إلى مشكلة في العراق وأخرى في دارفور وثالثة في الصومال ورابعة في لبنان. وبعد كلّ المأساة التي حلّت بالشعب العربيّ في العراق ولبنان وفلسطين. تعمَدُ الولايات المتحدة اليوم إلى التركيز على المسارات الطائفيّة في المنطقة ضمن المخطط نفسه لزرع الفتنة بين العرب وفرض الاقتتال بينهم وإبعادهم عن وحدة الموقف تجاه قضاياهم، والاستفراد بهم الواحد بعد الآخر، والواحد منهم معزول عن تضامن ودعم أشقائه، كما حصل في العراق والسودان وجنوب لبنان، وكما يحصل كل يوم في غزّة. الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني، وثالوث الحرب المستعرة على العرب كوندوليزا رايس يقومون بجهد واضح لتأليب العرب على بعضهم، وهم ماهرون في أداء هذا النوع من الفتن، وبالنسبة إليهم فإنّ إفشال قمّة عربيّة هو هدف دائم، ولا يهمّهم أين تُعقَد. والسؤال هو بماذا نجحوا هذه المرّة؟ أما العرب فإنهم يرون أنّها قمّة عاديّة للعرب اتفقَ قادتهم على أن تُعقَد دوريّاً وفقاً لتسلسل الأحرف الأبجديّة للبلدان، وكالعادة فإنها تُعقد في وضع عربيّ صعب تتطلّع فيه أفئدة العرب جميعاً لعمل عربيّ مشترك يُعيدُ للعرب كرامتهم وهيبتهم على مستوى المنطقة والعالم. فبسبب خلافات القادة، وعدم مقدرتهم على اللقاء والتباحث عند وجود خلافات، فإنهم يُفقِدوُنَ أمتهم فرصة الاتفاق على نقاط الالتقاء، ولذلك تدهّورت مكانة العرب عالميّاً، بل وحتى إقليميّاً، وأصبحت الدول العربيّة، ككّل، لا وزن لها في الحسابات الدوليّة ويتمّ إهمالهم جميعاً، إلاّ في حالات استخدامهم لضرب بعضهم ببعض.

القمّة إذاً ليست منعقدة بأجندة سوريّة، كما لم تكن منعقدة بأجندة سعوديّة سابقاً، ولن تكون منعقدة بأجندة يمنية مستقبلاً، بل هي قمّة عربيّة، اتفق القادة أنفسهم على عقدها دوريّاً وفق التسلسل من أجل التأكيد على انعقادها رغم الخلافات، ورغم الحساسيّات الشخصيّة، ورغم الضغوط الدوليّة. وهذه ليست المرّة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي تتصرف فيها الولايات المتحدة كعدوّ للعرب جميعاً: تقتلهم جيوشها ومخابراتها وحلفاؤها في العراق وفلسطين، فيما تعمل على زرع الفتنة بين صفوفهم، وتجهد لإفشال قمّة قادتهم. لن ينسى العرب موقف رايس المطالب بتمديد الحرب على المدنيين اللبنانيين حيثُ تمّ تدمير القرى اللبنانيّة، أملاً منها بترويع الشعوب العربيّة، فانتهت مغامرتها غير المحسوبة بكسر أسطورة الردع الإسرائيليّة. ولا حاجة للعودة للادعاءات الأمريكية بأنّها تُريدُ «تقويض إيران كقوّة إقليمية» وإذ بها، وفي كلّ تحرّك قامت به منذ احتلال افغانستان والعراق، تضيفُ إلى قدرات ومكانة إيران قوّة ومنعة استراتيجيّة، فهي من جهة قضت على أكبر عدويّن استراتيجيين لإيران، مما فسح المجال أمامها لتعزيز قدراتها وتمتين تماسكها داخليّاً وخارجيّاً. ومن زوّد إيران بأول مفاعل نووي؟ هل يجب أن تطيلوا التفكير لتعرفوا أنها الولايات المتحدة!

بالطبع، فإن جولة السيدة رايس في المنطقة للمرّة الرابعة عشرة تهدف، كالعادة، إلى تعميق الشِقاق بين القادة العرب، كما تهدف إلى منع التقائهم واتفاقهم، وهو أسلوب أدّى لحدّ الآن إلى ضياع فلسطين، والاستفراد بغزو العراق والسودان ولبنان والصومال، وإلى فرض التدخّل الأجنبي في كل تفاصيل الحياة العربيّة، الأمر الذي أدّى إلى ضعف يشمل الجميع أمام القوى الإقليميّة، كما أدّى إلى الاستهانة الدوليّة العلنيّة بهم جميعاً وصولاً إلى إهانة مقدّساتهم دون خوف من رادع عربيّ. إنّ زيارات بوش ورايس وتشيني تكشف القناع عن جهود لتحويل مشكلة عربيّة داخليّة إلى قضيّة مركزية لتشتيت الجهد العربيّ مرّة أخرى تجاه قضية احتلال فلسطين والعراق من قِبَل إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة حيثُ يئنُّ العرب في البلدين تحت احتلال وحشيّ لا يقيمُ للعرب جميعاً وزناً، فترى الاحتلال يعيث علناً اغتصاباً وقتلاً وهدماً للمنازل بينما قادتهم مشغولون بخلافات لا يُسمح لهم بحلها. الحقيقة هي أنّ المسائل العربيّة الملحّة تستدعي اللقاء عند الخلاف، والنقاش من أجل إيجاد نقاط التفاهم، والحوار من أجل التوصّل إلى قرارات قابلة للتنفيذ، ومن ثمّ العمل لوضع الآليّة المناسبة لتنفيذ هذه القرارات مع خطط زمنيّة واضحة ومحددّة. لقد ساعد بوش ورايس وتشيني الشعب العربيّ أن يرى المدى الخطير للتدخّل الأجنبيّ في بلداننا، وكذلك ضرورة اتخاذ موقف حاسم لوضع حدّ نهائي لهذا التدخّل. ربّما وفرت القمّة فرصة للعرب أن يروا على المستوى الرسميّ ما رأوه على المستوى الشعبيّ وما لمسوه منذ زمن. المقاومون العرب يستشهِدون في سبيل كرامة الأمّة وشرفها وحتى لا يقول التاريخ إنّ العرب تهاونوا بالدفاع عن أرضهم رغم إمكاناتهم الضخمة المهدورة هنا وهناك. لنرى كيف أنّ إسرائيل عمدت منذ تأسيسها إلى استهداف الأطفال العرب فقتلت تسعاً وثلاثين منهم في محرقة غزّة لوحدها وكان الإرهابيّون الذين ارتكبوا مجزرة دير ياسين يبقرون بطون الحوامل ويقومون بإخراج الخدّج العرب وذبحهم، واليوم تقوم الطائرات الأمريكية بقتل المزيد من أطفال العراق، لأنهم يعرفون أنّ هؤلاء الأطفال سيصبحون مثل الشباب الفلسطيني الذي يهاجم بصدور عارية الدبابة الإسرائيليّة المدرّعة. ولذلك ليس من المُستغرب أبداً أن نحلم بأنّ هؤلاء الأطفال والشباب يصلون بنا يوماً إلى قمّة عربيّة تمثّل بالفعل النبض العربيّ وطموحه للكرامة، يحضرها الجميع، ليعرضوا اختلافاتهم بهدف الوصول إلى تفاهم كما يفعل جميع قادة العالم.

هناك قمم أخرى ستأتي، والأهمّ بكثير هو انتشار الوعي بمقاومة الاحتلال والاستيطان والهيمنة والتدخّل الأجنبي المعادي. خاضت أوروبا حروباً وحشيّة وقاسية بين دولها قبل أن تُولد أوروبا الحديثة التي تسيرُ باتجاه الوحدة، وما يحدث اليوم من خلافات وتباينات بين العرب يُعتَبر صيغة حضاريّة جداً بالنسبة لما حدث في أوروبا، ولكنه سيقود إلى النتيجة نفسها ألا وهي ولادة حالة حضاريّة عربيّة متقدّمة لا تقبل بعد اليوم وضع قناع الخلافات على الوجوه، أو تجاهل حقائق الأمّة الواحدة، لأنّ الشعب العربيّ في جميع أقطاره يُطالب بإحداث تغيير نوعيّ في أسلوب العمل الرسمي ليضمن في المستقبل القريب ولادة عمل عربيّ مشترك يُعبّر في شكله، وجوهره، وآفاقه عن المصلحة العربيّة العليا الحاليّة والمستقبليّة دون قبول التدخّل من أحد، أو الانصياع لمصالح أحد سوى مصالح العرب أنفسهم. وستتذكّر رايس ورهطها، حينئذ، أنّها لعبت دوراً من حيثُ لا تدري، بمخاض عالم عربيّ جديد يريده العرب أنفسهم، ويفخرون به، ويعيشون فيه آمنين مستقرين «لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

www.bouthainashaaban.com