تكتل مجلس التعاون.. وقدر الريادة والمواجهة

TT

الوضعية الراهنة والمستقبل كلاهما يؤكدان أن لا حل أمام دول مجلس التعاون الخليجي للحفاظ على أمنها القومي وتحقيق تطورها وتقدمها إلا ببناء السلام والذي يتطلب بدوره قرارا حازما في تبنى استراتيجية واضحة وقوية لقيادة العمل العربي ومواجهة مشاكل المنطقة، فالمشاكل تتفاقم وتتعقد في ظل ضعف العمل العربي المتحد، وفي حالة تفجر بؤر النزاع والصراع فإن نتائجها ربما تشمل المنطقة كلها، وهذا بطبيعة الحال يهدد المنظومة الخليجية في العمق.

وما يزيد من المخاطر في الراهن أن كل طرف في المنظومة العربية يعمل من خلال أجندة منفردة وأحيانا أنانية لمواجهة التهديدات التي تعيشها المنطقة، وهذا حولها إلى غنيمة للدول الغربية ومكّن إيران في المقابل من تحقيق اختراقات خطيرة مهددة لأمن المنظومة الخليجية ولأمن العرب.

وتحاول إيران بقوة وبتطرف باسم مواجهة التدخلات الغربية لملء الفراغ وطرح نفسها كقوة رادعة للولايات المتحدة الأمريكية ولإسرائيل، والغريب أن سلوك إيران المتطرف لتحقيق مصالحها وتوسيع نفوذها، يضعف من الموقف العربي ويزيد من الهيمنة الغربية، ويمنح إسرائيل مبررا لعرقلة عملية السلام ونشر الفوضى في المنطقة.

فالتنافس الغربي ـ الإيراني على المنطقة كانت تأثيراته سلبية على العرب، فقد تعمق الصراع بين الدول العربية من جانب، وأفرز صراعا صامتا وعلنيا بين النخب داخل أغلب الدول العربية من جانب آخر، وهذا ساعد في تعميق التناقضات العربية، وولّد حالة من التخبط العربي في مواجهة المتنافسين، وأفقد العرب القدرة على حماية مصالحهم.

ومن الواضح أن الصراع الإقليمي والدولي في المنطقة العربية يعيق الأمن والاستقرار وينهك التنمية التي بدأت نتائجها تشدّ من أزر القوة العربية خصوصا في دول الخليج، بل يضعف وربما يدمر ما تم انجازه في المراحل الماضية ويجعل الثروة التي حققتها أسعار النفط المرتفعة تذهب سدى في صراعات عدمية لا تخدم مصالح دول مجلس التعاون ولا مصالح العرب، وإنما تذهب إلى سلة الرأسمالية الغربية.

والمستفيد الكبير من الاستقرار هو دول الخليج، بل إن تقدمها وقوتها المستقبليين مرهونان بسلام شامل يعم المنطقة كلها، وعلى دول الخليج دولا وشعوبا أن يدركوا أن هذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال العمل بقوة وحزم لتبني الخيارات الواقعية القادرة على فرض وإجبار الآخرين على قبول التعايش الإقليمي وتحقيق السلام، وهذا لا يمكن حصوله ما لم تحمل دولة الخليج راية القيادة بحسم وقوة وتضحية، فمستقبل المنطقة في الراهن مرهون بقدرتها على تبني استراتيجية التحدي والمواجهة بآليات سلمية ولا يمنع من استخدام سياسات هجومية مع القوى المتوافقة معها لفرض التعايش الإقليمي.

وعندما نراهن على المنظومة الخليجية فإنه رهان حقيقي ورابح، فهذه الدول مؤهلة لقيادة العمل العربي في المرحلة القادمة من أجل بناء السلام وتحقيق التعايش الإقليمي، فالواقع الموضوعي يؤكد أن هذه الدول، التي تشكل السعودية فيها المحور والعمود الفقري، تملك مؤهلات القيادة، فلديها الموقع الاستراتيجي المتميز، وهي قلب العالم، ولديها إمكانات مادية وبشرية واقتصادية وثقافية وإعلامية، كما أن تأثيرها السياسي وعلاقاتها وارتباطاتها الدولية والإقليمية وشراكتها الاقتصادية مع اغلب الدول المؤثرة في المنظومة الدولية، كل ذلك يجعلها في المقدمة في حالة توظيف قوتها بالشكل الصحيح.

وخوض غمار المواجهة بالعقلانية والاعتدال سيجعلها قادرة على فرض أجندتها على الجميع، وسيجعلها قادرة على تحمل المسؤولية التاريخية لمواجهة المخاطر والتهديدات التي تكاد تعصف بالمنطقة، وفي تصوري إذا لم تتحرك المنظومة الخليجية لملء الفراغ فإن مصالحها ستواجه مشاكل لا حصر لها في المستقبل.

والواقع يؤكد أن المنظومة الخليجية في الراهن ومستقبلا هي وحدها من تملك مؤهلات مواجهة الضعف والتشتت والانهيار الذي أصاب المنظومة العربية، والانتقال إلى الواجهة بالتعاون مع دولة محورية كمصر أصبح مسألة وجود ليس لدول الخليج فحسب، بل للمنظومة العربية كلها، فدول مجلس التعاون بخوضها غمار العمل العربي مرشحة لتصبح من المحاور الفاعلة في المنظومة العالمية، ولا يمكنها أن تحقق نجاحات فاعلة إذا كانت المنظومة العربية مخترقة ومشتتة وفاقدة لإستراتيجية قومية وعالمية.

ويمثل إعادة بناء الثقافة العربية مدخل جوهري للمسألة، ثقافة لبها الإسلام الحضاري، ثقافة محكومة بالعقل والاعتدال، ثقافة إنسانية منفتحة على الآخر، ومستوعبة للتغيير والتجدد الدائم، ثقافة مرنة تشكل المصلحة بمعناها الشامل أساس حركتها.

وفي بداية الأمر لا بد أن تكون الشراكة الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية هي الحامل القوي لتحقيق التواصل وبعث اللحمة العربية، ومن خلال كل ذلك يسهل ربط الدول والشعوب العربية، وهنا لا بد من التذكير بأن القيادة التي تتحمل عبئها دول الخليج في المرحلة الراهنة تفقد معناها إذا لم يكن الاقتصاد محورها وجوهر حركتها، فعالم اليوم يؤمن أولا بالاقتصاد، فهو لغته والمتحكم بسلوكه وفاعليته في المجالات الأخرى.

وهنا لا بد من الإشارة الى أن العالم العربي مر بتجارب تاريخية مأساوية أوقعته في مخازي الهزيمة والضياع، وفقد العرب نتيجة ذلك مصالحهم المادية والمعنوية، فالرؤى الرومانسية الغامضة المبنية على نزوع «قوموي» متعصب وغوغائي أسس لاستراتيجيات قائمة على المواجهة بالخطاب الدعائي الساذج، وأغرق المنطقة في نزاعات طائفية فاسدة، وجعل المنطقة تعتمد على قوة خطابية مثالية تقودها عاطفة جياشة وفكر حماسي متهور، فكان النتاج واقعا مزريا نعيش نتائجه حتى اللحظة من فشل تنموي وهيمنة أجنبية.

وإذا كان الفكر القومي القديم باستناده الى آيديولوجية متخاصمة مع الذات ومع العالم قد فقد هيبته وانتهى الأمر بمن يقوده في نخبوية طائفية وفي صراعات عديمة، فإن النزعات الآيديولوجية المتطرفة تنبعث في الراهن باسم الإسلام وباسم المقاومة والكرامة لتنفجر في المنابر والأجساد بإرهاب أعمى نتائجه هزائم داخلية وخارجية نعاني منها في كل اتجاه.

وهذا ما يجعل المسؤولية التاريخية تقع على قوى الاعتدال لإعادة تعمير رؤية عربية عقلانية تقوم على بعث فكر تجديدي يؤسس للسلام العربي ويسهم في بناء علاقات التعايش والتواؤم مع الدول الإقليمية والمنظومة الدولية بما يخدم مصالح العرب ولا يتناقض مع مصالح الآخرين.

ولتحقيق مصالح المنظومة الخليجية وخوض غمار الإقليمية والعالمية نؤكد أنها بحاجة إلى خوض غمار التحدي والمواجهة، ولن يكون ذلك إلا بأن تتخلص من الخوف وتتبنى روح المغامرة العاقلة والمنفتحة على الآخر وأن تعمل من أجل فك جدران الانعزال وروح النرجسية وأن تبذل جهدها من أجل امتلاك الاستراتيجية القادرة على مواجهة مشاكلها وتجاوز خوفها والإسهام بروح عربية ناضجة في قيادة المنطقة.

وهذه الدول جديرة بالمهمة، فمصالح العالم تقع في الخليج، بل غذاء الحياة المعاصرة بيدها، وهذا جعلها محور العلاقات الدولية الراهنة ومحور الصراع العالمي، ومن جانب آخر مصالح الخليج في العالم لا تحصى، ولذا لا بد من تبني آليات قوية وحاسمة لتحقيق مصالحها من خلال امتلاك زمام المبادرة ومواجهة مشاكلها الداخلية وبذل جهدها من أجل بناء اللحمة العربية.

وفي المرحلة القادمة لتحقيق الريادة فإن ذلك يتطلب أولا: التعجيل في تنفيذ السياسات المتفق عليها بين دول مجلس التعاون والتركيز على الاستثمار في الإنسان والتركيز على بناء القوة الاقتصادية، وثانيا: تجاوز المنظورات الآيديولوجية البالية وتجاوز وإلغاء الماضي الصراعي، والعمل بأسرع ما يمكن لتأهيل اليمن ومساعدته على حل مشاكله الداخلية ليصبح العضو السابع في المنظومة، فاليمن هو مخزون الخليج البشري وقوة استراتيجية للمنظومة الخليجية، ولن تكتمل قوة المجلس لتحقيق الريادة العربية إلا بانضمامه، وثالثا: مقاومة الاختراقات التي أحدثتها الدول الأخرى، ومقاومة التدخل الإيراني في شؤون المنطقة ومواجهة الأفكار المتطرفة للتيار المحافظ في إيران وفتح أبواب الحوار مع الإصلاحيين، ورابعا: مقاومة الإرهاب والتطرف وإعادة بناء صورة الإسلام المشرقة. وخامسا: العمل بجد وإخلاص من أجل إزالة بؤر التوتر والصراع في العالم العربي وإجبار إسرائيل على السلام وإعادة سوريا إلى الصف العربي.

وأولا وأخيرا يمثل الإصلاح الداخلي، ابتداء من الانفتاح السياسي إلى تحقيق العدالة في توزيع الثروة استثمار الفوائض المالية بطريقة علمية خادمة للمستقبل، مداخل أساسية لتحقيق الأمن القومي وضرورة ملحة لخوض الإقليمية والعالمية.

وفي الختام يمكن القول إن شخصية قوية وحازمة تتمتع بصفات مميزة ونادرة.. شخصية تحب شعبها ويحبها ومُحِبة للشعب العربي.. شخصية متعاونة ومرنة ومنفتحة على الجميع وقادرة على التضحية وتحمل أصالة الفارس العربي، متمثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، يجعل طموحاتنا نحن الباحثين عن أماني الانبعاث العربي في طريقها للتحقق، فهذا الرجل العربي الأصيل قادر على حمل الاستراتيجية العربية وتحقيق الأمن لدولته. وبتعاونه مع دول الخليج فإنه مع إخوانه العرب قادرون على حماية بيضة العرب من انتهاكات الطامعين.

* كاتب يمني