مزايدة ومكابرة ومعاندة.. تنتج «قمة» عاجزة!

TT

الخلافات العربية ـ العربية غدت حالة تراثية في أمتنا، حتى ليصدُق القول إنها القاعدة التي لا يكذّبها الاستثناء منذ حرب داحس والغبراء. والمبالغات والإفراط في المزايدة و«المرجلة» أيضاً من المظاهر المعروفة منذ أيام طيب الذكر عمرو بن كلثوم، الذي قال:

ألا لا يجهلَن أحدٌ علينا... فنجهل فوق جهلِ الجاهلينا

فدفع اعتزاز المفرط لقومه بهذا الموقف «النضالي» ونومهم على أمجاده، أحد الشعراء بعد فترة من الزمن إلى هجائهم بالقول:

ألهى بني تغلب عن كل مكرمةٍ... قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثومِ

«القمة العربية العشرون» في دمشق تحمل الكثير من معالم «جاهليتنا»، وبخاصة، لجهة تغييب التعقل والواقعية وراء دخان الشعارات الجوفاء مثل كلمة «تضامن» التي أشبعناها امتهاناً وإذلالاً حتى أضحت نكتة سمجة.

لقد رأى العرب وسمعوا الكثير مما جادت به القمة عليهم من كلام.. بينما المطلوب حقاً العمل. وإذا كان الوقت قد مضى على التذكير بأن «التضامن» العربي لا يتحقق عبر اتهام عدد من القادة العرب بأنهم «أنصاف رجال» وتخوين الحكومات الشقيقة في وسائل الإعلام الحكومية، فإن أضعف الإيمان هو أن يتنبّه مَن استضاف القمة ومن حضرها إلى الكارثة الحقيقية التي تجلّت فيها.

فمّما لا شك فيه، أن ثمة أطماعاً في المنطقة لجملة من الأسباب الاستراتيجية المعروفة ليس أقلها النفط، وهذه الأطماع دولية وإقليمية. ويكفي النظر من حولنا لنكتشف ليس كيف أن بعض أجزاء عالمنا العربي مهدّدة بالانفصال والضياع فحسب، بل كم لدينا أصلاً من الأراضي المحتلة بعضها ما عدنا نجرؤ على المطالبة به حرصاً على حسن الجوار.. و«كفى الله المؤمنين شر القتال»!

والثابت أيضاً أن حالة الانقسام العربي المزمنة تشجع كثيراً المطامع الدولية والإقليمية وتُفاقمها، فكيف إذا توفّر لها من قلب العالم العربي «طابور خامس» يسهّل مهمتها ويبرّر مخططاتها بأي عذر من الأعذار؟

نفهم ونقدّر كيف أن واجبات «النضال» ضد العدوان المستمر على الأمة التي التزمت بها بعض الأنظمة العربية.. أقنعتها بفضائل مصادرة حريات المواطنين، وتطبيق مفاهيم «القيادة التاريخية المنزهة عن الخطأ» المألوفة في الأنظمة الشمولية، وترويج الولاء الببغائي القطيعي أو الانتهازي المصلحي لها.

نفهم هذا تماماً. ونفهم أيضاً أن من حسنات هذه المصادرة (بالنسبة للسلطة طبعاً) هو سحب حق المساءلة والاعتراض من المواطن، وتحويله إلى متلقٍّ أصم أبكم.. إلا عند تنظيم التظاهرات والمهرجانات واستفتاءات المبايعة والتجديد. ولكن المتلقي الأصم الأبكم في نهاية المطاف.. لا يبني وطناً ولا يحرّر أرضاً.

العدوانية الإسرائيلية الهاربة من استحقاقات السلام، طبعاً، تشكل أخطر تحدٍّ للعالم العربي، أو على الأقل للجزء الشرقي منه. والتماهي المطلق للسياسة الأميركية مع الهروب الإسرائيلي المستمر إلى الأمام، بالرغم من تبيّن حصيلته على الأرض داخل فلسطين وخارجها.. في العالمين العربي والإسلامي، يشكّل أزمة صعبة للقيادات العربية العاقلة التي تفهم العالم وتأمل من العالم أن يفهمنا ويفهم مشاكلنا وظروفنا.

ولقد اكتشفت تل أبيب ـ وواشنطن أيضاً ـ العلاقة المباشرة بين القضية الفلسطينية وتنامي الأصولية والتطرّف الإسلامي المسلح منذ بعض الوقت، لكن الإسرائيليين ـ على الأقل ـ يبدون سعداء بزجّ المنطقة أكثر فأكثر في نار الأصولية والفتن الدينية والطائفية/المذهبية، وبإعطاء قوى الرفض و«المزايدة» وتعطيل السلام العادل مزيداً من الصدقية في بيئتين فلسطينية وعربية محبطتين ومأزومتين.

أكثر من هذا، يراهن الإسرائيليون على لعبة خطرة جداً كانت في الماضي مأمونة العواقب لأن أطرافها من اللاعبين العرب والإقليميين كانوا يعرفون «خطوطها الحمراء»، أما اليوم فقد لا تكون أو لا تظل كذلك.

فما يتردّد أو يُسرّب عمداً في إسرائيل حرصها (؟) على «فصل دمشق عن طهران». وفي هذا السبيل جاء إصرار تل أبيب على أن تدعو واشنطن سورية إلى مؤتمر آنابوليس، وضمن هذا السياق تندرج المفاوضات الناشطة السّريّة والعلنيّة، المباشرة وغير المباشرة، بين الجانبين السوري والإسرائيلي. ولكن ألا يفيد التذكير أن الموقف الإسرائيلي قام دائماً على الانفتاح أكثر على دمشق كلّما تشدد في الملف الفلسطيني؟

هذا بما يخصّ الوضع الفلسطيني، التي أصرّت القيادة السورية على جعله في الواجهة تعمّداً لإبعاد الأضواء عن الملف اللبناني. ولكن لبنان المغيَّب سورياً عن «قمة دمشق» كان حاضراً بغيابه وتغيُّب قادة القوى العربية الكبرى التي تضامنت معه ورافقت أزمته المتطاولة وضايقتها المناورات السورية الهادفة إلى تعميق أزمته، وصولاً إلى استعادة الوصاية عليه.

وهنا كان لافتاً استمرار المكابرة في دمشق حيال مسألة «التدخل» في لبنان. فدمشق على لسان الرئيس بشار الأسد رفضت وترفض «التدخل» لتسهيل الحلول، بينما هي باعتراف حلفائها ومفاخرة أدواتها داخل لبنان في وسائل إعلامهم ووسائل الإعلام السورية.. تتدخل فعلياً وبشتى الوسائل ـ السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية ـ لـ«مواجهة المخطط الأميركي». كما أنها على لسان وزير خارجيتها تضع شروطاً غير معهودة في العلاقات بين الدول السيّدة المستقلة لكيف يجب أن يكون عليه شكل الحكومة اللبنانية المقبلة.

ونصل إلى الوضع في العراق، وبالأخص، في بعده الإيراني الذي يقلق ولو بصمت، عدداً من الدول الخليجية وجيران العراق. وهنا أيضاً، يبدو وكأن دمشق تتعمّد استثمار تحالفها الاستراتيجي مع إيران لتعزيز موقعها الإقليمي، ومن ثم استغلال هذا الموقع في المقايضات التي يستوجبها فتح قنوات التفاوض مع واشنطن وتل أبيب. ومما يثير الاستغراب، مضيّ دمشق قدماً في هذه الطريق رغم أجواء الاحتقان المذهبي التي تتوالد من حولها، ومعاندتها في رفض أي حوار جدي بهذا الشأن رغم المحاولات العديدة المبذولة معها لإدراك أبعاد هذه السياسة.

إزاء كل هذه الحقائق المؤسفة، هل كان منطقياً توقع انعقاد قمة قادرة على تنظيم حوار بناء؟

وهل يمكن تحقيق شيء في ظل الإصرار على رهانات ومغامرات كبيرة يسهل الانخراط، ولكن يصعب تحاشي كوارثها؟