اضطرابات متوقعة بعد فشل القمة

TT

استأذن عمرو موسى الغيور على حضور السنيورة قمة دمشق، لأقول ان قراءة قراراتها وإعلاناتها هي من قبيل إضاعة الوقت. قمة لا يحضرها الزعماء العرب المعنيون بالقضايا الرئيسية، كالعاهل السعودي والرئيس المصري، غير قادرة على تبنِّي مبادرات أو مواقف جديدة، وكانت لَوْكاً مُرّا لقرارات قممية سابقة.

صرف الرئيس بشار وقتا رئاسيا ثمينا في استقبال رئيس جزر القمر، فأضاع الفرصة الوحيدة المتاحة لنجاح القمة، لو انه وقف ليعلن ويتعهد صراحة ومباشرة، بأن سورية ستضع حدا لتدخلها الخطير في لبنان، و«ستمون» على حلفائها هناك بسحب شروطهم التي تحول دون انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية. كان بشار قادرا على تحديد موعد لحارس البرلمان اللبناني، لفتح أبوابه لعقد جلسة الانتخاب.

بدلا من ذلك، اختار بشار أن يتهم، على لسان موظفه الوزير الديبلوماسي، السعودية بعرقلة الحل! كأن السعودية هي التي وضعت شروط عون وبري وحسن نصر الله التعجيزية، على العماد سليمان حول شكل الحكومة المقبلة، وتمثيلهم فيها، وحول سياساتها ومواقفها، بل وصلت الشروط الى محاولة فرض قائد جديد للجيش ومديرين للأجهزة الأمنية.

وهكذا، يكرِّس بشار بنفسه استمرار عزلة سورية العربية والدولية. كان السوريون بحكم الموقع الجيوسياسي لبلدهم دائما أعرف العرب وأخبرهم بالسياسات العربية، قبل أن ينتزع منهم الفلسطينيون هذه الأسبقية. لم تعرف سورية عزلة بهذا العمق إلا في عهد صلاح جديد (1966 ـ 1970) الذي دمر علاقة سورية بلبنان والسعودية ودول الخليج، وغزا الأردن قبل أن يسقطه «أبو بشار».

القذافي الذي حمل خيمته الى دمشق ليس معروفا بأنه صديق حميم للأب والابن، لكنه خَيَّمَ عند بشار نكاية بمصر والسعودية. كلِّي أمل في أن الأخ العقيد استغل حضوره ليشرح لدمشق فن تغيير السياسات والمعسكرات. لعل بشار يستفيد من الخبرة في العثور على حل، على الطريقة الليبية، لقضية اغتيال الحريري، ذلك الحل الذي جنب القيادة السياسية الليبية الاتهام المباشر باغتيال طائرة لوكربي، وانتهى بتسليم ضابط مخابراتي صغير للمحكمة الدولية، وبدفع عشرة ملايين دولار لكل أميركي من ضحايا الطائرة المنكوبة.

المثل الشعبي يقول: «حِيْل المفلس على المفلس ترى العجب». اختار نظام الابن استمرار الاعتماد على إيران. معنى ذلك ان حدة الخلافات العربية التي يسعِّر لهيبها الإيرانيون ستستمر بعد قمة دمشق المشؤومة. قبل القمة انهالت الاتهامات التقليدية المملة على العرب بالانحياز لأميركا. فجأة رفع المعلم شعار «التضامن والتعاون العربي» عنوانا لها. بعد القمة، وبمباركة إيرانية، تعود حليمة إلى حالتها القديمة.

الحملة «الإيراسورية» المشتركة لن تقتصر على إطلاق دخان الاتهامات. ربما يتواصل مسلسل الاغتيالات والتفجيرات في لبنان. لمعاقبة الأردن على عدم حضور «قمة الغياب» فقد تكون ساحته الداخلية معرضة ايضا لتفجيرات واضطرابات. صوت منوشهر متكي كان مسموعا في ردهات القمة. كان نشيطاً للغاية في الدعاية لاستصدار قرار عربي بإدانة السلام. بل كان وراء تلميح دمشق إلى احتمال سحب مبادرة السلام السعودية التي تبنتها قمة بيروت في عام 2002.

هل هناك مبادرة بديلة؟ نعم، هناك المبادرة الإيرانية لتعطيل الاستقرار العربي والسلام في المنطقة. وكلاء إيران في لبنان وغزة والعراق عاكفون على أداء المهمة. لكن في دمشق دفع المخابراتي عماد مغنية حياته ثمنا، وتم تغيير السفير الإيراني المخابراتي في العاصمة السورية. ربما اكتشف السوريون محاولة إيرانية لتحريك جبهة الجولان. إيران تدرك أن تسوية تفاوضية للانسحاب الإسرائيلي من الجولان، ستضع حداً للاختراق الفارسي للعرب. لكن الجولان خطْ سوري أحمر ليس مسموحا للفلسطينيين أو حتى للإيرانيين باجتيازه، لأن الهدوء في الجولان هو أحد أسباب بقاء النظام السوري واستقراره طيلة السنوات الأربعين الماضية.

إذا كان الاستقرار الداخلي للنظام الإيراني يتوقف على هذا الاستقرار العربي، فلماذا يضطر النظام السوري لمسايرة المخطط الإيراني ودعمه في المنطقة؟ لماذا تُسَخَّر سورية (قلب العروبة النابض حسب تأكيدات المعلم) لتقسيم العرب؟

هنا، لا بد لي من إلقاء نظرة سريعة على طبيعة النظام السوري. كونه فئويا يتحرك على مساحة شعبية ضيِّقة، اضطره إلى فتح قنوات سرية مع الغرب. هذه القنوات ضمنت له البقاء والاستمرار في ظروف منطقة مضطربة. بكلام آخر، هناك سلطة خفية في سورية غير السلطة الرسمية الظاهرة. هذه السلطة الخفيَّة هي التي ترسم سياسة سورية الخارجية والداخلية، وتترك تنفيذ الوجه الظاهر منها لصف جديد من الديبلوماسيين المحترفين، ومعظمهم غير بعثيين وغير علويين، من أمثال المعلم والمقداد والخِيَمي والجعفري...

عندما رحل الأب (2000) اختلّ الإمساك الخفي بالقنوات الدولية الضامنة لاستقرار واستمرار النظام. الابن يملك لكنه لا يحكم. ليست له براعة الأب الراحل وخبرته في الحفاظ على قنوات الدعم والاتصال. هناك اليوم عدة أيد عسكرية وطائفية تدير سياسة النظام. هذه «الحكومة» ذات الأيدي الخفية، بما فيها يد بشار الظاهرة، تراهن الآن على إيران كضامن للاستقرار، بدلا من الرهان على العرب والغرب.

إيران في العرف الدولي «دولة مارقة». اعتماد النظام في دمشق على دولة مارقة يتيح له، في رؤيته وتحليله، المجال للتحرر والخلاص من التورط في قضية الحريري، وتفادي أحكام قضائية تضع أركانه في وضع ومصير سلوبودان ميلوزيفيتش الرئيس الصربي الأسبق. من هنا، تأتي الحملة «الإيراسورية» على التوافق في لبنان، لتعطيل المؤسسات الدستورية المعنية بتشكيل المحكمة الدولية وإسباغ الشرعية اللبنانية عليها.

أظن ان عمرو موسى قد استعجل في الإلحاح على لبنان لحضور قمة دمشق. عمرو مصري في القاهرة. إماراتي في الخليج. سوري في دمشق. لبناني سوري في لبنان. لا أشكك في غيرة عمرو القومية، لكني ما زلت عند رأيي وتجربتي مع بعض الدبلوماسيين المصريين أنهم يحتاجون إلى وقت طويل مع الأميركيين لفهم ألغاز وملابسات وفلسفات المشرق العربي المعقدة.

كان السنيورة أكثر نجاحا من موسى. هذا القومي العربي الحقيقي يعرف كيف يخاطب البعثيين بلغتهم العروبية. قدم السنيورة لبنان في كلمته العقلانية غيورا على الالتزام بالمبادرة العربية، محملا بجرأة وصراحة نظام البعث السوري محنة لبنان. لكني كنت أتمنى أن يتكلم السنيورة من مكتبه، وليس من داخل ديكور مسرحي ميلودرامي محاط بأعلام 22 دولة عربية.

انقسام القرار العربي مُزْمِن. قديم قِدم التاريخ. معقد ومكبَّل بعقد الحاضر. لكني لأول مرة أشعر بالخوف إزاء حالة التمزق العربية الراهنة. كان الانقسام على مستوى الزعامات. ظل العمق العربي في منأى عن هذه التمزقات. ظلت المجتمعات العربية، على الرغم من خصوصيتها المحلية. موحدة في ثقافتها وعاطفتها وضميرها القومي.

اليوم، سيطرة النظام على الإعلام ينقل حدة صراعاته مع نظام آخر، إلى قلب هذه المجتمعات. هناك حاليا تدمير رسمي منظم للعلاقة القومية بين هذه المجتمعات. أقول بصراحة إن هناك أناساً عاديين في سورية يصدِّقون النظام عندما يهاجم لبنان. وهناك في لبنان مَن يستغل أخطاء النظام السوري لوضع خصوصية لبنان المحلية فوق عروبته التي دافع عنها السنيورة بوعي قومي تام يرتفع فوق الخصومة.