وطن بدون وطنيين (1 ـ 4)

TT

الوضع في العراق حير السفير السويدي في بغداد. قال المتوقع والجاري دبلوماسيا في كل العالم أن يلتزم المسؤولون بالبروتوكول الدبلوماسي. وهذا يملي أن تجري سائر الاتصالات الرسمية مع السفارات عن طريق وزارة الخارجية. ولكنهم في العراق، كما لاحظ الرجل، يتصل الوزراء وكبار المسؤولين به مباشرة ويتجاوزون قنوات وزارة الخارجية. يضربون له التلفون ويلتقون به ويبحثون شؤون وزارتهم وبلادهم معه. لاحظ أنه في كل مرة كان الحوار ينتهي بحديث خاص، بيني وبينك. يقول المتحدث ويسأل «ممكن ترتب لي لجوء سياسي لعائلتي في السويد»؟

إنه في الواقع، وكما أتصور منطقيا، بيت القصيد. لجوء سياسي لأسرة الرجل، وبالطبع وبالتبعية، كرب الأسرة له أيضا.

وعندما أضيف لذلك ما أسمعه في لندن من المسؤولين العراقيين أو عنهم، انتهي إلى هذا الرأي، وهو أن معظم المسؤولين في العراق يتعاملون مع بلدهم كمحطة في الطريق. فلأكثرهم بيوتهم في الدول الغربية وعوائلهم وأولادهم التلاميذ في المدارس الأجنبية. عادوا إلى العراق كما عاد كثير من رجال الأعمال الغربيين. بالنسبة لهم وطنهم هو بريطانيا أو هولندا أو الدانمارك أو السويد أو ألمانيا أو أي بلد من البلدان الأوربية التي أعطتهم اللجوء وخصصت لهم مخصصات معيشة اللاجئين. قيل لي إن عوائل بعضهم ما زالت تتقاضى هذه المخصصات. وكما قلت، عادوا للعراق كما عاد رجال الأعمال الغربيون. عندهم مقاولة غير منظورة يكسبون بموجبها ما يمكن لهم أن يسرقوه وينقلوه للبنوك الغربية ثم يعودوا ليواصلوا أو يبدأوا حياتهم ويبنوا مستقبلهم في الغرب. لا قلوبهم ولا عقولهم مع وطنهم الأصلي، العراق.

هذا في رأيي سر من أسرار التدهور الجاري هناك. إنهم يتعاملون مع وطنهم، كما أتعامل مع فندق سياحي في ايطاليا أقضي به شهرا وأعود.

نشرت قبل بضعة أعوام رسالة في صحيفة الاندبندنت البريطانية، هاجمت فيه الغرب على منح حق اللجوء لمثقفي العالم الثالث. بدت الرسالة وكأنها ترمي إلى الإضرار بهم والنيل منهم من منطلق كرهي الدائم للمثقفين. الحقيقة هي أنه قبل تبني الغربيين لفكرة اللجوء السياسي والإنساني، كان على المثقف والمناضل السياسي أن يصمد في بلده ويقاتل من أجل إصلاحه. لا حاجة به لذلك الآن. كل المهنيين في العراق لا يفكرون بشيء اليوم غير الحصول على لجوء في الغرب. من يغامر بحياته وحياة أسرته ويعاني من انقطاع الكهرباء والماء والخدمات من أجل وطن منهار وشعب مجنون؟

في مسرحية غاليليو لبرتولد برخت، يقول تلميذ غاليليو لأستاذه: «يا ويلتاه على الوطن الذي لا ينجب أبطالا». يرد عليه غاليليو فيقول: «لا، بل قل يا ويلتاه على الوطن الذي يحتاج إلى أبطال».