أخي الإنسان

TT

من المؤكد أن الدعوة إلى الحوار والالتقاء بين البشر كلهم، على قاعدة الإخاء الإنساني، أمر يزعج المتطرفين في كل المعسكرات. ماذا يبقى من التطرف إذا قضيت على مناخه ؟ كيف يروج الخطاب الوثوقي التبشيري إذا ما جففت منابعه؟

لن تجد دعوات الحرب الحضارية، ولا هجائيات الثقافات لبعضها، موقعا ولا تأثيرا، لأن الثقافات ستلتقي وجها لوجه مع بعضها، بدون الحديث المشوه بالنيابة عنها.

في هذا المناخ العالمي المتوتر، خصوصا بعد 11 سبتمبر، لا مكان للأصوات الهادئة، المسرح كله صار مهيأ للأصوات المتشنجة، وقصائد الهجاء المتبادلة.

هناك تهيج وتوتر لدى المسلمين عند أي حادثة أو كلام يتعلق بهم، يعود هذا التهيج والحساسية في سياق «جرح الكرامة» الحضاري، فالأمم تصاب بجرح الكرامة كما الأفراد، وحينها لا يعود بمقدورنا التحكم بردود الأفعال، لأن كل كلام أو فعل مدان مسبقا، وسيتم استقباله من قبل المجروح بتهيج وسوء ظن. يصبح الأمر أسوأ، والقصة أعقد، إذا ما قرر الطرف الآخر أن يجرح الآخر بالفعل، وليس كما يتوهم الآخر.. هنا تخرج الأمور عن السيطرة وينزلق الجميع نحو هاوية الصدام الكبير، وبطبيعة الحال فإن جو الصدام الحضاري، والقطيعة بين الأمم والثقافات، هو جو لا يفيد إلا دعاة الحرب، بكل اشكالها، وأهل الخطاب المغلق الواثق، الرافض سلفا لإمكانية ـ أو حتى صحة ـ الحوار والتآخي الإنساني .

هذا هو الحال الآن بين المسلمين والغرب.. وربما بقية العالم، هناك جو من الشحن والقطيعة يغذيه متطرفون من المسلمين، ومن الغرب، كما فعل النائب الهولندي خيرت فيلدرز، من خلال فيلم «الفتنة» القصير. وقبل ذلك أزمة الرسوم الكارتونية، وسجل عندك: آيات سلمان رشدي الشيطانية، وتسليمة نسرين.. وغيرهم.

وهنا يجب ان نكون حذرين في التوصيف، في الغرب هناك قيم حاكمة لحرية التعبير تختلف تماما عن القيم السائدة في الشرق الأوسط، حيث تأتي قيمة الحرية الفردية في درجة عالية قياسا بقيمة الحفاظ على المجموع، هنا في الشرق الاوسط والعالم العربي والإسلامي، بشكل عام، لا قيمة للفردانية أمام الجماعية، فهذا محدد معياري فارق بين الثقافتين. الأمر الآخر يجب أن لا نغفل ان تركيز الاعلام العربي والاسلامي على هذه الامثلة هو الذي اوصلها لرجل الشارع الفقير في كابل، او لطوابير الخبز في القاهرة، فصار بعضهم يهتف «من غلبه» ضد النائب الهولندي، الذي لا يعرف ربما ماذا يعمل، ومن هو وماذا قال في فيلمه.

أقصد أن هناك تلهفا من قبل الاعلام العربي والاسلامي لتسليط الضوء على هذه الامثلة الغربية المعادية لثقافة المسلمين. هنا يكون السؤال: من هو الذي يريد إبقاء جو الشحن والصراع وتكرير الحديث عنه وبناء الافعال والمبادرات عليه؟ هناك ناس «تشتغل» على عاتق هذه المشكلات، من مؤتمرات، وجمعيات، والأهم من هذا كله، أن جو المواجهة والانتصار للنبي والاسلام ضد خصومه، هو جو يرفع من شأن العاطفة الدينية الدفاعية، وهي عاطفة جياشة، الأمر الذي «يفرخ» جماهير جديدة، صحيح أن غالبية من يهتف ويغضب ويتظاهر في الشارع ضد فيلم «الفتنة» الهولندي او رسوم الدنمارك، هم اناس عاديون، وليسو مؤدلجين، بل يتحركون بدافع وسلوك تلقائي للدفاع عن الهوية العامة، لكن من المؤكد ان نسبة، ولو قليلة، من هذه الجماهير ستمضي أكثر وأكثر في الإصغاء لنجوم هذه الاجواء، والانتقال من نصرة النبي إلى نصرة الداعية !

هل معنى هذا رفض الاعتراض على الإساءة للإسلام ونبيه والمسلمين كلهم، بدون تفريق؟ لا طبعا، وأصلا هي تصرفات دفاعية غريزية وطبيعية. لكننا نحاول ان نعرف لماذا هذا الاستعداد العالي عندنا للاستفزاز والتوتر ؟

هل هذه المقاربات العدائية للإسلام شيء حديث ومبتدع؟ لا، فهي ظواهر موجودة منذ احتكت أوروبا بالاسلام، وقد اتخمت كتب التاريخ بنماذج كثيرة من ذلك، على مستوى أعمق من رسم بسيط او فيلم رث، وجدت هذه المقاربات العدائية، اللاعلمية، للإسلام في كتب وبحوث مهمة، ورد عليها او ناقشها علماء وباحثون مسلمون، لكن ما يجري الآن شيء آخر، بسبب الترويج الاعلامي من جهة، وبسبب احتياج جماعات رفض وتطرف معينة لوقود من هذا الشاكلة كي تسوغ وجودها واستمرارها.

ما هي قيمة نائب يميني متطرف في هولندا لولا تقديم نفسه بوصفه عدو الإسلام الاول في الغرب، والرجل الشجاع الذي لا يهاب إرهاب المسلمين؟

وما هي قيمة أناس آخرين عندنا نحن المسلمين لولا تقديهم لأنفسهم بوصفهم حماة الإسلام والثائرين من أجل النبي، لولا هذه المعارك المفتعلة. هذا في المستوى الظاهر، وفي المستوى الأعمق، ارتفاع مشاعر الكراهية والقطيعة التي تجهز المسرح لممثلي فكرة «الحرب الصليبية»، والدفاع عن الأمة الإسلامية، والتبشير بنور الإسلام في العالم، والجهاد، والتخندق حول الدين، طبقا لقراءتهم طبعا،.. كل هذه الأفكار والمفاهيم لا يمكن أن تزدهر إلا من خلال «تزخيم» ومضاعفة أجواء القطيعة الحضارية.

من أجل ذلك كله، كانت دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز الأخيرة أثناء استقباله المشاركين في ندوة بالرياض حول حوار الحضارات بين العالم الإسلامي واليابان، لحوار الاديان على قاعدة الاخاء الانساني، دعوة مهمة وفارقة.

أشار الملك عبد الله في ذلك اللقاء إلى أن باعثه على هذه الدعوة والمبادرة هو مواجهة التفكك الأسري وتفشي الإلحاد، باعتبار أن «هذا لا يجوز من جميع الأديان (الكتب) السماوية لا من القرآن ولا التوراة ولا من الإنجيل».

وقال في خطبة نادرة من هذا النوع :«كنت أفكر منذ سنتين أن جميع البشرية في وقتنا الحاضر في أزمة أخلت بموازين العقل والأخلاق والإنسانية، ولهذا فكرت وعرضت تفكيري على علمائنا في المملكة العربية السعودية لأخذ الضوء الأخضر منهم ولله الحمد وافقوا على ذلك».

ولخص الملك فكرته تلك بأنه يريد أن يطلب «من جميع الأديان السماوية الاجتماع مع إخوانهم في إيمان وإخلاص لكل الأديان لأننا نحن نتجه إلى رب واحد».

حقيقة، لا اعرف أن مثقفا سعوديا، ناهيك من سياسي، تحدث بمثل هذا الوضوح والنقاء والعبارات في التلاقي مع أمم الأرض، إنها دعوة جريئة وسابقة للجميع، وهي فكرة ليست للاستهلاك الكلامي، مع أنها ـ بمجرد قولها بهذه الصراحة فقط ـ تعتبر انجازا، لكنها مع ذلك فكرة وبرنامج عمل كما قال وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، وهي تشمل جميع الديانات الأساسية في العالم، بما فيها اليهودية، فهم «أهل كتاب» كما قال وزير الخارجية.

هذا النوع من الاختراق اللغوي لبنية التطرف الفكري، والصدمة الايجابية له، هي ما نحتاجه حقا، وأنا متأكد أن المتطرفين ودعاة الانغلاق سيصابون بخيبة أمل من دعوة الملك للحوار الإنساني بين أبناء الديانات، على قاعدة المشتركات الكبرى بينهم، من اجل تعزيزها في العالم .

بصرف النظر عن مدى إمكانية نجاح واستعداد أبناء الديانات للحوار و«التآخي» إلا أن الدعوة بحد ذاتها، ومن «ملك السعودية»، التي هي مهد الحرمين ومقر السلفية، تعتبر سبقا واختراقا مميزا.

انتظروا في الفترة القليلة المقبلة أن يبدي أعداء الحوار، وأنصار فتاوى التكفير أيضا، تذمرا من هذه الدعوة، ومحاولة للالتفاف عليها، لكن الماء قد جرى في النهر ولا يمكن إيقافه، ربما يعطل، ولكنه لن يقف عن الجريان...