تركيا.. والحديث النبوي الشريف

TT

قوبل المشروع العلمي التركي لمراجعة الحديث النبوي الشريف وإعادة قراءته بسخط واسع في الكثير من الأوساط الإسلامية، الذي رأت فيه مسا بقدسية وحجية السنة المطهرة، وارتماء في أحضان أعداء الدين، على الرغم ان المشروع لا يعدو أن يكون مبادرة علمية أكاديمية مطروحة للباحثين ومعروضة على علماء الأمة للقبول او الرفض بحسب المناهج الإسلامية الأصيلة.

ولا بد من تبيان عدة حقائق معروفة لدى أهل الاختصاص قليلا ما يتم التنبيه إليها:

أولا: ان جمع الحديث كما تبين الوثائق العلمية الرصينة بدأ متأخرا، ولم يكن موضوع إجماع الصحابة الكرام، بل اعترض عليه كبارهم. وحسب ما يذكر السيوطي وابن حجر وغيرهما فان تدوين الحديث الشريف كان قرارا جريئا أخذه الخليفة الأموي المتميز عمر بن عبد العزيز، وان كانت المدونات التي يفترض أنها جمعت في عهده لم تصلنا. ولا يتعلق الأمر بحجية السنة الشريفة التي لا يعترض عليها أحد، بل بمدى صحة نسبة النصوص المروية للنبي صلى الله عليه وسلم. ولذا ندرك أن أئمة أهل السنة الأوائل كانوا شديدي الاحتياط في الأخذ بالحديث، فقدم عليه أبو حنيفة الرأي اذا لم يكن صريحا متواترا وقدم عليه مالك عمل أهل المدينة الذي اعتبره أكثر دلالة على مرجعية السنة النبوية.

ثانيا: اذا كانت حجية السنة ليست مدار اعتراض، إلا ان علم المصطلح القائم على أسانيد الرواية والتعديل والتجريح لا يتسم بالقطعية، بل هو ظني إذا تعلق الحال بأحاديث الآحاد التي هي الأغلبية المطلقة من المرويات. فصحة السند كما يقول علماء المصطلح لا تفيد صحة المتن بالضرورة، ومن الاحتياط الواجب التوقف في القطع بنسبة القول الى الرسول الكريم، خصوصا ان تقويم الرجال صعب، لا يمكن ان يفضي الى جزم كامل. فكم من راو عدله البعض ومدحه بأفضل الفضائل وذمه البعض الآخر واتهمه بالوضع والكذب كما يعرف من له ادنى اطلاع على هذا العلم العصي.

ثالثا: لم يقل أحد من المحدثين إن علم التعديل والتجريح قد اكتمل ولم يعد من المتاح تضعيف حديث او تقويته، حتى لو تعلق الأمر بكتب الصحاح المعتمدة لدى أهل السنة (وان كانت لا تلزم الشيعة مثلا الذين لهم مسانيدهم وصحاحهم). فهذا ابن صلاح والدارقطني والذهبي وابن تيمية وغيرهم يشيرون الى أحاديث ضعيفة في صحيحي البخاري ومسلم. بل هذا هو الألباني المعاصر يضعف أحاديث في الصحاح بالرجوع لنفس المنهجية المتبعة من علماء الاصطلاح الأول، مما يدل على مرونة هذا الفن واتساع الاجتهاد فيه. ولقد أصبح من الواضح ان أدوات التدوين والبحث الراهنة تمد الباحث بوسائل تنقيح ومراجعة غير مسبوقة، فلماذا التشنيع على الهيئات العلمية التركية في ما سبقوا اليه دون اعتراض؟

رابعا: من أدوات المحدثين الأوائل القدح في صحة السند بمضمون النص، مما يفسر رفضهم لكثير من النصوص لأسباب عقدية وتشريعية على الرغم من متانة سندها. فما المانع من تطبيق هذا النهج في النظر لبعض الأحاديث التي تعارض اليقينيات الكونية كما كشف عنها العلم التجريبي الحديث او تناقض روح الإسلام المنفتحة الرحبة في النظر للمخالف في الدين، او تقدم صورة سلبية للمرأة تتنافى مع التصور الإسلامي الصحيح. وكما هو معروف بدأ الإصلاحيون النهضويون هذا المسلك منذ الإمامين الأفغاني ومحمد عبده، وتوصلوا بأدوات الصناعة الحديثية الى تضعيف أحاديث كانت على كل الألسنة. وليس في الأمر تطاول على مقام السنة الشريفة او عمالة للغرب المناوئ للإسلام، فالمحدثون نفسهم يقرون انهم يتشددون في الحلال والحرام ويتساهلون في غيرهما.

ثم ان صحة السند ليست حاجزا أمام مرونة التأويل الذي لا تنحصر أدواته في المدونة التأويلية الوسيطة التي هي جهد بشري محمود، لكنه ظني وضعي لا قداسة له ولا يتماهى مع سلطة النص ذاته.

وحاصل الأمر ان الحركة الإسلامية التركية نجحت في التحول من الأصولية المتشددة الى التشكل الديمقراطي المتصالح مع الهوية الحضارية للأمة، مما عجزت عنه الحركات الإسلامية في البلاد العربية، فلنمنحها اليوم فرصة الإسهام في ما عجزنا عنه من واجب تجديد الدين وإعادة بناء علومه.