أميركا وإيران .. بعد خراب البصرة

TT

يتحدث الجيش العراقي، ويتحدث رئيس الوزراء المالكي، ومنذ أسابيع، عن الحملة التي يشارك فيهار الأميركيون ضدّ «القاعدة» والإرهاب في الموصل. بيد أنّ رئيس الوزراء العراقي ظهر فجأةً قبل أسبوع بالبصرة مصطحباً معه فرقةً من الجيش العراقي، وأعلن شنَّ الحرب على ميليشيا «جيش المهدي» الخارجة على القانون. وكان الأميركيون قد تحدّثوا قبل ذلك عن حرب شوارع ومواقع بين ميليشيات ثلاث تدور في البصرة، ودعوا البريطانيين (الأربعة الآلاف) الذين انسحبوا من المدينة قبل أربعة أشهُر وتمركزوا في مطارها، دَعَوهُم إلى العودة إليها لنشر الأمن والاستقرار بدلا من الاضطراب والفوضى، واللذين ظهرا بوضوحٍ بعد خروجهم منها. جرى شنُّ الحرب إذن على «جيش المهدي» وحده، وامتدّت الاشتباكات إلى مدن الجنوب الشيعية الأُخرى، وادَّعى كلٌّ من الطرفين الانتصار والسيطرة. وقد سقط حتى الآن زُهاء الثلاثمائة قتيل، في البصرة ومدينة الصدر ببغداد والكوت والعمارة.. الخ. بيد أنّ المُلفت للانتباه إضافةً إلى عنف تصريحات المالكي ضد ميليشيا جيش المهدي، والقول إنها أخطر من «القاعدة»! أنّ الرئيس بوش اعتبر هذه المعركة أساسيةً لصدقية الحكومة، ولمستقبل العراق، وأنّ الجنرال الأميركي المتولّي قِطاع العمليات بالجنوب طلب من إيران المساعدة في إنهاء العنف، وأنّ إيران ظلّت صامتةً إلى حدٍ بعيد، وأنّ الأميركيين والبريطانيين تدخلوا أخيراً لمساعدة الجيش العراقي في البصرة وفي مدينة الصدر.

ما كان مقتدى الصدر سهلا ولا هيِّنا على قلب الغُزاة الأميركيين، ولا على قلب المرجعية الشيعية، والحزبين المسيطرَين (المجلس الأعلى، وحزب الدعوة) في العامين الأولين بعد الغزو. فما حسب أحدٌ له حساباً، وهو الذي يشكّ في أنّ هؤلاء جميعاً لعبوا دوراً في اغتيال والده محمد محمد صادق الصدر عام 1999. ففي السنوات الثلاث الأولى (2003 ـ 2006) تعاونت المرجعية الشيعية، وتعاون الحزبان الأساسيان، وتعاونت إيران، على استيعاب الصدر، وإشراكه بنصيبٍ بارزٍ في الانتخابات، وفي المناصب والحِصص. وفي حين ظلَّ الشابُّ الحادّ والمتوتّرُ معادياً للأميركيين حتى اليوم، مال بعد فترةٍ للتنسيق مع المرجعية، وتوقفت تصريحاتُه ضد إيران بل ولجأ إليها ثلاث مراتٍ عندما كان يتعرض لضغوط من قوات الاحتلال. وما قبل التعاوُن حقيقةً مع المجلس الأعلى وآل الحكيم، لكنه بدا حتى العام الماضي شديد الثقة بإيران وبحزب الدعوة (المالكي) معاً.

في عام 2006 بالذات، بدأ الأميركيون يشْكون من أنّ إيران وعبر تنظيمٍ سمّتْهُ «جيش القدس» قد اخترقت ميليشيا الصدر، وأنهم (أي الإيرانيين) ينفّذون عملياتٍ ضدّ الغُزاة تحت اسم «جيش المهدي». بيد أنّ البارزَ في العام نفسِه (2006) ثلاثة أمور أخرى: المذابح الطائفية التي نفّذها جيش المهدي ضدّ السنة على اثر تفجير مقامي الإمامين العاشر والحادي عشر في سامراء. وبدء الأميركيين والإيرانيين بإجراء مفاوضات بشأن العراق في بغداد تارةً في العلن، وأخرى في السرّ. والأمر الثالث: استمرار السيد مقتدى في معارضة الفيدرالية الطائفية التي أقرَّها الدستور، واستمرار غارات ميليشياه على مناطق وغنائم ونفوذ الحزبين الآخَرَين وبخاصةٍ المجلس الأعلى.

وقد جَرَّب حظَّه باعتباره تنظيم مقاومة في مواجهة الأميركيين عندما حاول الاستيلاءَ على النجف، لكنه خسِر المعركة. ولأنه صار بين أمرين: إمّا التصْفية، أو إيقاف العمل المسلَّح، فإنه جَمَّد في مطلع عام 2007 عمل جيش المهدي، وقال إنه سيتابع دراسته في إيران للوصول إلى درجة الاجتهاد والمرجعية. لكنْ في فترة «الكمون» النسْبية تلك، بدأت علاقاتُه بالمالكي تسوء، فاعتزل وزراؤه الحكومةَ القائمة، وتكررت الاشتباكات بين ميليشياه أو الميليشيا المحسوبة عليه، وميليشيا حزب الدعوة، وقوات الأمن العراقية. وقد اتهم أتباع الصدر الأجهزة الحكومية بالاستمرار في ملاحقة أفراد التيار واعتقالهم بدون سبب!

وبالنظر لهذه الظواهر كلّها، يمكن القول إنّ للمعركة الدائرة منذ أسبوع متعلّقات بعدة أمور: بدء الأميركيين بالتخطيط لمرحلة الانسحاب، ومدى تقدم مفاوضاتهم مع الإيرانيين، وتنظيم أو وحدة «البندقية» في المناطق الشيعية. فقد نفّذ الأميركيون خطةً لفرض الأمن في المناطق السنية من خلال قوات الصحوة أو الصحوات، واستطاعوا أن يوكلوا المسائل الأمنية إلى تلك الميليشيات القَبَلية مع الجيش والشرطة. وهم يعتقدون الآن أنه فيما عدا الموصل؛ فإنّ الأمن يمكن أن يستتبَّ هناك بالتدريج، ودونما حاجةٍ للتدخل المستمر من جانب الأميركيين، بعد تضاؤل قوة تنظيم القاعدة، وانفضاض التنظيمات المسلّحة الأُخرى من حولِه.

وتمثل ميليشيا مقتدى الصدر تحدياً في المناطق الشيعية من عدة نواح: عدم انضباطها وغوغائيتها، وتجاوُزاتها ضدّ الحزبين الشيعيين الآخرين، واختراق الإيرانيين لها. وقد تبين أنّ قوات الشرطة لا تستطيع السيطرة على الأمن في المدن بسبب فوضى الميليشيا الصدرية من جهة، ولشكوك الأميركيين في النفوذ الإيراني فيها، رغم أنّ سلاحها خفيفٌ ومتوسطٌ في الأغلب الأعمّ، بيد أنّ قرار الحرب ضدَّها من أجل «ترتيب الأوضاع» في المناطق الشيعية مما يمهّد للانسحاب التدريجي، لا يُمكنُ أن يكونَ (أي القرار) قد اتُخذ لولا التقدم في المفاوضات بين الأميركيين والإيرانيين. وقد قال الأميركيون لدبلوماسيين أوروبيين وعرب قبل شهرين، إنّ المفاوضات مع الإيرانيين دائرة حول شتى الموضوعات وفي مقدمتها العراق. ولذا فالراجحُ أن يكونَ المالكي قد مهَّد للحملة المنسّقة مع الأميركيين، بالحديث مع الإيرانيين، بشأن إزالة الميليشيا الصدرية بعد ضمّ ألوف منها إلى قوات الشرطة، بحجة فوضويتها وعدم انضباطها. ويستطيع الزعيم مقتدى الصدر أن يمارس النشاط السياسي بدون ميليشيا. وبذلك تتوحد «البندقية» في المناطق الشيعية، ويتطبَّقُ دستور الفيدرالية أو قانونها، ويصبح الصدر الزعيم الشعبوي عاجزاً عن الضغط بالسلاح لمنع قيام الكانتونات في العراق، وبخاصةٍ في المناطق ذات الأكثرية الشيعية. إضافة إلى ما يستفيد منه الأميركيون، من القدرة على سحب القوات أو تخفيض عددها في سائر أنحاء العراق. ثم إنّ زوال سيطرة مقتدى الصدر على الشارع في المدن الشيعية بالجنوب يقوّي من سطوة الحزبين المشتركين بين الإيرانيين وأميركا، أي المجلس الأعلى وحزب الدعوة.

ما نجح السيد مقتدى الذي أعلن منذ البداية ـ بخلاف كلّ الأطياف الشيعية الأُخرى ـ معارضة للأميركيين الغُزاة، ما نجح في تكوين تيار عريض للمقاومة المدنية أو العسكرية. كما أنه لم ينجح في التحالُف مع مرجعية السيستاني وحزب الفضيلة والأحزاب الشيعية الصغيرة، لإحداث توازُن تجاه الحزبين الشيعيين الكبيرين والحاكمين. وما نجح أيضاً في إقامة علاقات مستقرة مع المدنيين السنة المعارضين للاحتلال. وإيران من جهتها لم تنجح في إعادة تنظيم تياره وضبطه، كما فعلت مع حزب الله بلبنان. ولذا فإنّ تصفية عناصره الهائجة بالمدن الشيعية، لن تُثير تعاطُفاً من أي جانب. ولن يزول التيار بذلك، لكنه قد يضعُفُ ضعفاً شديداً.

إنّ الأرجح أنّ هذه المعركة هي معركةُ «توحيد البندقية» في المناطق الشيعية أُسوةً بالمناطق السنية. وهذا أمرٌ مفيدٌ للأميركيين وحلفائهم، ومفيدٌ لإيران وحلفائها في المدى المتوسط. ولأنّ إيران ليست مشاركةً في تلك التصفية بشكلٍ مباشر؛ فستظلّ قادرةً على حمل مظلة التوسط والمهادنة، وربما ليس في العراق فقط؛ بل في عدة بلدانٍ شرق أوسطية.

إنما السؤال سؤالان، الأول: كيف يتصور الإيرانيون مصائر الدولة في العراق، والسؤال الآخَر: كيف يتصور الشيعةُ العرب المستقبل في ظل وفاق ممكن بين إيران والولايات المتحدة؟!