ما بعد القمة العربية في دمشق؟!

TT

عند نشر هذا المقال سيكون الحديث عن القمة العربية المنعقدة في دمشق قد أخذ في الخفوت والتراجع عن عناوين الصحف ومقدمات نشرات الأخبار؛ ولم يبق مما يدل على وقوع القمة إلا تعليقات حول ما جرى يكون بعضها مغلفا بالحسرة، وبعضها الآخر مسلما للأقدار، وبعضها الثالث يوزع اللوم على أطراف متعددة ما عدا طرفا ما كان إلى جانبه صواب دائم. ولكن القمة العربية ليست هي العالم العربي، والدول العربية ليست هي المنطقة التي نعيش فيها بحكم التاريخ والجغرافيا والتطور الذي يحرك ذلك باتجاه التقدم أو التخلف، ويحدد روابط وتفاعلات يصعب تجنب الحديث فيها والتعقيب عليها لأنها سوف تكون الهواء الذي على كل من يعيش في المنطقة أن يتنفسه شهيقا وزفيرا أيضا.

ومن السهل في هذه العملية المفروضة على الجميع أن يكون التعامل مع المنطقة من خلال مجموعة الأحداث التي تمر بها؛ وكان حدث القمة العربية الأخير هو الموقف من انتخاب رئيس لجمهورية لبنان حيث ترتب عليه مستويات تمثيل الحضور إلى دمشق، ولكن ذلك لم يمنع أن تكون أحداث العراق وفلسطين واقعة تفصل بين الصفوف العربية وتفرزها وتوزعها بين اليمين واليسار. وبشكل من الأشكال فإن مثل هذا المنطق القائم على التقسيم بالمواقف إزاء الأحداث هو الغالب على كل القمم السابقة حيث تفرق العرب دوما ـ إلا فيما ندر من قمم ـ بين تحالفات صريحة أو ضمنية. ومع ذلك كان هناك دوما نوع من الاستنكار لأن ذلك كان تعبيرا عن «المحاور» المستهجنة من الجمع العربي، ولذلك يصمم أعضاء كل محور أنه لا محاور هناك، وكل ما هنالك أن أعضاء المحور الآخر كان عليهم الانضمام إلى المحور الصحيح فلا يكون هناك انقسام ولا محاور ولا حتى حديث عن أي منهما.

ومع ذلك فإن المحاور، والمحاور المضادة، والتحالفات، والتحالفات المضادة، هي جزء أصيل من طبيعة العلاقات الدولية؛ وكان التاريخ دوما شاهدا على انقسامات في العالم وفي الأقاليم. ومنذ قامت حرب «البلوبنيز» بين أثينا واسبرطة في العصور القديمة عرف العالم أقطابا متصارعة استندت إلى تحالفات وأفكار وتوجهات، وبالطبع قبل وبعد كل شيء إلى مصالح. وفي يوم من الأيام كان العالم منقسما بين روما والإسكندرية، ومن بعدها بين البرتغال وإسبانيا، وفرنسا وبريطانيا، وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وفيما عدا فترات قليلة دان فيها العالم لقوة وحيدة فإن الانقسام إلى محاور وأقطاب كان هو الأصل، وفي السجل العربي فإن ما هو معروف بالإمبراطورية العربية الإسلامية لم يتعد وجوده إلا قرونا قليلة لم يلبث بعدها إلا وانقسم إلى أكثر من خلافة، وإمارة، وممالك وشفالك، وتحالفات وتحالفات مضادة، وصراعات كبرى وصغرى.

ولكن المشكلة الكبرى في العالم العربي أنه لم يجر فقط إنكار أو استنكار الانقسام وإقامة المحاور، وإنما جرى أيضا تجاهل أصول القضية أو القضايا التي جرى الانقسام حولها. ففي ظل الانقسامات والمحاور التي عرفها التاريخ كان هناك صراع على إدارة الحاضر وعملية بناء المستقبل تعقده وتتحكم فيه توازنات القوى وقدرات القادة ومصالح الدول. ولم يكن إصرار دمشق على عقد القمة بالطريقة التي تمت بها دون حل المعضلة اللبنانية لأن لها تفسيرا مختلفا للمبادرة العربية إزاء لبنان، ولكن لأن لها منهجا مختلفا في النظر إلى المنطقة كلها في ترابطها الاستراتيجي والذي حدث أن لبنان رقعة وورقة فيها يمكن استخدامها لخدمة أغراض إستراتيجية متنوعة. وببساطة فإن المنهج السياسي والاستراتيجي هو الأكثر أهمية من السلوك والتصريحات والغمز واللمز، وهو منهج راديكالي أخذ أشكالا وتعبيرات جديدة بعد أن تغير الموقف الاستراتيجي في المنطقة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبها من احتلال أمريكي فاشل للعراق الذي خلف فراغا استراتيجيا كبيرا تحاول أطراف بديلة ملأه واستغلاله. فما هو واضح عند قراءة المنهج هو أن هناك اعتقادا عميقا لدى أطراف عربية أن هناك لحظة تاريخية سانحة لقلب الأوضاع في المنطقة كلها رأسا على عقب لصالح الجماعة الثورية المكونة من إيران وسوريا وحزب الله وجماعة حماس بحيث لا تتغير المعادلات مع الأعداء فقط، ولكن ربما ـ وهو الأهم بالنسبة لهم ـ تتغير المعادلات والتوازنات داخل العالم العربي نفسه لصالح الراديكاليين في مواجهة المعتدلين.

والحقيقة أن الانقسام بين الراديكاليين والمعتدلين في العالم العربي ليس جديدا بالمرة، وفي التاريخ العربي كانت معركة حلف بغداد، وحرب اليمن، وحروب لبنانية شتى، وحرب الخليج الأولى والثانية، تعبيرات متنوعة عن هذا الانقسام. وفي معظم فترات التاريخ الإنساني فقد كان هذا الانقسام قائما في العالم وجرى حسمه في معظم الأحوال لصالح القوى المعتدلة التي جمعت ما بين رغبة في احترام الأمر الواقع واستعداد في نفس الوقت لتغييره وتبديله بوسائل سلمية وفي إطار آفاق تقدمية. وفي الوقت الذي كان فيه الراديكاليون يريدون تدمير الواقع وتحطيمه بادعاء الاستعداد لإقامة واقع آخر مختلف جذريا أكثر عدالة وتحررا؛ فإن المعتدلين كانوا يعملون على الانطلاق من الأمر الواقع بكل ما له وكل ما عليه عبر مراحل زمنية ممتدة لتحقيق أهداف تراها مناسبة لمجتمعاتها. وربما كانت المشكلة والمعضلة في العالم العربي هي أن الراديكاليين لم يعرفوا أبدا ما الذي يمكنهم عمله بعد تدمير الواقع الذي لا يرغبون فيه، فلم يعرف حزب الله ولا سوريا ماذا يريدان بلبنان بعد شله، ولا عرفت حماس ما الذي تريده بالقضية الفلسطينية بعد أن فصلت غزة عن الكيان الفلسطيني. ولم يكن الأمر مختلفا عما كان عليه الوضع في الماضي عندما ذهب عبد الناصر إلى اليمن، ولا عندما دخل صدام حسين إلى الكويت، وكل ما جرى كان أن الدولة أو الجماعة الراديكالية قد دخلت من أزمة إلى كارثة دفعت ثمنها غاليا ومعها المنطقة كلها.

وربما كان ذلك هو معضلة الراديكاليين العرب في العموم، فلم يكن لديهم الكثير من الأهداف الطموحة للثوريين في العالم في تغيير مجتمعاتهم، بل أن الراديكالية العربية لم تنته في كثير من الأحيان إلى ما هو أكثر من صيغة شمولية وزاعقة للحكم. وللحق فإن المعتدلين العرب لم يكونوا أحسن حالا دائما من الراديكاليين، فرغم أن رؤاهم أثبتت صحتها عبر العقود الماضية، إلا أن الاعتدال لديهم كان اقرب إلى المحافظة منه إلى اعتدال حقيقي. والفارق بين المحافظين والمعتدلين أن الأولين يريدون الحفاظ على الأوضاع القائمة أما الآخرون فإنهم يضيفون إلى ذلك ضرورة تطويرها. ولم يكن ممكنا هزيمة الثورة الفرنسية وأفكارها في أوروبا لولا نتائج الثورة الصناعية والديمقراطية التي جرت في انجلترا، ولا كان ممكنا هزيمة الشيوعية في موسكو لولا نتائج عولمة الثورة الصناعية والتكنولوجية الثالثة التي قادتها واشنطن بكل ما غيرته من مجتمعات وأفكار لم يكن بمقدور حلف وارسو مقاومتها.

وربما كانت مشكلة المعتدلين العرب أنهم لم يفتقدوا برنامجا للتغيير والإصلاح فقط، بل أنهم أحيانا نظروا بعداء لكل من يطالبهم به سواء كان ذلك من الداخل أو الخارج. لقد آن لذلك أن يتغير ليس فقط لأن الراديكاليين يستعدون لنسف المنطقة وما عليها، بل أيضا لأن لدى المعتدلين أوراقا كثيرة تقود المنطقة لما هو أفضل. والحديث متصل على أية حال !!