بالبَصْرَة ضجةٌ!

TT

ماذا يجري بالبصَرة وحاكموها من مذهب واحد، ومحتدٍ واحد هو الإسلام السياسي الشيعي، تتزعمه العمائم، السُّود والبيض، لا بينها طرابيش، ولا قلانس، ولا سدائر! لهيمنتها لم يقدر أهل البَصْرَة الأُصلاء الامتناع عن الإصباح بصور وملصقات تخبر ببيت طرفة بن العبد: «..ما أشبه الليلة بالبارحة»! وليس بوسعهم، وهم العُزل إلا ما قاله في مدينتهم الأمير الشاعر ابن المعتز (قتل 296هـ): «أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً» (طبقات الشعراء)، الاعتراض على جماعات تسحق صدورهم سحقاً! اتخذت الأسماء المقدسة عناوين: بقية الله، ثأر الله، بدر، المهدي! وأُخر قيد التفريخ!

لا يُفَسر ما بالبصرة من ضَجة مدوية بالطائفية، فلا اختلاف على صيغة الاذان، مثلما فعلها أحد المراهقين الإعلاميين، الذي حمل أموالاً وخرج في أول الأيام من زعامة بول بريمر، تاركاً الاذان مقسماً بين سُنَّي وشيعي بالتناوب وعبر الفضائية الرسمية. وبالجملة لا اختلاف على معاملات وعبادات، فالرسائل الفقهية واحدة، والمرجع واحد؟! وما العلة إلا الهيمنة على بيت المال، وتعلمون ما ثمن خراج البَصْرَة!

كانت الطائفية ذريعتهم إلى الأقاليم المذهبية، وها هي الحرب بين أبناء الطائفة الواحدة! تجدهم حريصون على العنف الطائفي، لأنه أسرع السُبل إلى تدويل العراق على هيئة أقاليم! ما عذر أحزاب الإسلام السياسي والحرب تنتقل إلى داخل المذهبيين وبأشد قسوة: بين صدريين، ودعوة، ومجلس، وفي الطرف الآخر: الحزب الإسلامي، والصحوات!

لقد أسقط اندلاع المعارك بين شيعة وشيعة، وسُنَّة وسُنَّة، وقبلها بكثير بين كوردٍ وكورد، التذرع بالأسوار الطائفية والقومية، وبالتالي التمسك بالمحاصصة عروة وثقى!

نعم، للطائفية تراث في السياسة العراقية، ومورست ورقتها لمصالح شخصية من قَبل، ولكن بأقل خطورة وسخونة، وعلى خفتها أدت إلى تقويض تجربة واعدة، كان لها تجنيب البلاد شرَ الكوارث، فكيف والنظام أصبح مرهونا بها دستورياً!

قال محسن أبو طبيخ (ت 1961) أحد وجهاء البلاد، وكأنه يصف حال العراق اليوم: «لقد بذر مَنْ لا يهمهم أمر البلاد ـ بقدر ما تهمهم مصالحهم الذاتية ـ بذوراً فاسدة في البلاد، وهي بذور الطائفية والعنصرية، وقد سُقيت بسياسة المحسوبية والمنسوبية.. لقد شاهدنا الكثيرين من الشيعة يتظلمون إلى طائفتهم، وينحون بالملامة على السُنَّة، وبالأخص على رجال الحكومة منهم بأنهم آثروا أبناء طائفتهم، وبخسوا حق الشيعة بالنسبة إلى مرافق التوظيف، لكنهم عندما كانوا ينالون منصباً سامياً، وعندما يحققون مصالحهم الذاتية، ويحصلون على ما تطمح إليه نفوسهم يعلنون نكرانهم لمبادئهم، وكذلك شاهدنا من أهل السُنَّة، وعلى الأخص عشاق الكراسي منهم». (مذكرات السيد محسن أبو طبيخ، ص377). وها هي الوجوه والحوادث تُكرر نفسها، لكن في زمن أكثر أكاذيب وغمطاً للحقوق، أورقت فيه بذرة الطائفية السياسية شجرةً، وسمادها اليومي دماء أهل العراق، وتستظل بها حكومات ومقاومات على السواء.

خمس سنوات عِجاف وأهل البَصْرَة، والوسط والجنوب كافة، يشكون من تعسف المسلحين، تغلبوا بشريعة الانتخاب، حتى أهين صندوق الاقتراع الإهانة كلها، ومستشارو الحكومة يتكاثرون، وصلات القربي تتورم بالعقارات، ومازال أرباب السلاح متضامنين فلا يهم مَنْ وكم القتلى، ولو سألت أين هو قاتل العشرات أبو درع الآن لقيل لك يتجول في مدينة قُم الإيرانية.

نتمنى أن تكون ضجة البَصْرَة من أجل البلاد لا مقدمة لمعركة انتخابية، لحسم أقلمة العراق، وحبس السلطة بيد حزبين لا ثالث لهما في الجنوب والوسط! وأغلب المحافظين فيها من التوابين، لا شهادات ولا مؤهلات، والزعماء يستعرضون الجماهير المهلهلة بالمدائح، وسط حجرات زجاجية لغرض الحماية والأبهة معاً، ويُُطرد موظفون من وظائفهم بتهمة إنزال صورة زعيم! فماذا تبدل، وتجدد؟ ومع تلك الحال أي عراقي لا ينشد: «قد كنت أقرب للرجاء.. فصرت أقرب للقنوط» (الجواهري)؟!

دعونا نحتمل صدق النوايا في ضجة البَصْرَة، لحصر السلاح بيد الدولة، وكي يكون ذلك أقرب للصدق لو: أخرجت بقية الميليشيات سلاحها وسلمته للدولة، ونظفت القوات المسلحة من الولاءات. لو: أُعلن عن تصفية سلاح المنظمات الدينية التابعة لهذا الكيان أو ذاك، وأذيعت الحقائق المتعلقة بالاغتيالات والمقاتل! عدا ذلك تبقى تلك المعارك بين أحزاب ومنظمات تتطاحن حول مراكز القرار، ولضمان انتخابات آتية.

عودٌ على بدء، يغلب على الظن أن البَصْرَة أكثر المدن عُرضةً للخراب، بطواعين وثورات وحروب، كيف لا وهي مدخل الجيوش الزاحفة إلى بغداد. إلا أنها سريعة التعافي، ذلك لوجود مقومات العافية في ظاهر وباطن أرضها، ومنى النفس أن يكون خرابها الجاري آخر الأَخْربة. هذا إذا كانت الضجة فيها بين دولة عراقية، لا شرقية ولا غربية، وشذاذ طرقات خارجين على القانون.

[email protected]