هل الإنسان (مهسّتر) ؟!

TT

حديثي اليوم عن القدرة على التحمل، وفي صغري سبق لي أن اشتركت مع طلبة المدارس في سباق (الضاحية) جرياً لمسافة (16 كيلومترا)، وقد خرج من السباق وتوقف الكثيرون، غير أنني استطعت بالجهد والإصرار أن اصل إلى النهاية متقدماً على الكثير من ورائي، ومتخلفاً عن الكثير من أمامي، وأول ما وصلت (تشهدت) ثم انطرحت أرضاً.

ومن هواياتي قراءة كتب الرحلات، ومن المعروف أن الحجاج قديماً يقطعون آلاف الكيلومترات بعشرات الأشهر ليصلوا إلى الأماكن المقدسة، وكانوا يقطعون تلك المسافات إما على الأقدام أو على الدواب. وأشهر الحملات هي الركب المصري ومعه المغاربة، والركب الشامي ومعه الأتراك، والركب العراقي ومعه الفرس، وفي أواخر القرن التاسع عشر، اعتبروا القطار والسفينة البخارية نعمة وراحة ما بعدها راحة، رغم أن الحجاج اليوم لو ركبوها لاعتبروها نقمة ومشقة ما بعدها مشقة.

وأشهر الرحالة في التاريخ الذين تحملوا المشقات اثنان، الأول: خواجة ويدعى (ماركو بوللو)، والثاني: مغربي وهو عمنا (ابن بطوطة)، وكلاهما وصل إلى الصين، غير أن الثاني يمتاز على الأول انه قضى أكثر من 25 عاماً وهو (يلف ويدور ولا يتعب)، والذي جعل أسفاره (مستساغة) نوعاً ما، انه لم يترك في نفسه وقلبه أي حسرة، فتزوج من النساء الكثيرات في أغلب البلاد التي مر عليها، سواء في أفريقيا أو الجزيرة العربية أو الأندلس، أو بلاد الترك وفارس والهند، حتى الصين لم يوفرها، وكان يتقبل هدايا الحكام والسلاطين له من الجواري بصدر رحب، ومن إشفاقه على أطفاله من تعب السفر كان يتركهم عند أمهاتهم المطلقات، لهذا فسلالة ابن بطوطة منتشرة ما شاء الله في كل أصقاع العالم.

ومن سباقات القدرة على التحمل هو السباق السنوي الشتوي على الزلاجات الثلجية في كندا بواسطة الكلاب، وهو من أصعب السباقات، غير انه لم يرق إلى سباق الخيول الذي جرى في أمريكا وأسموه سباق (الألف ميل) وذلك في سنة 1893، ورصدوا له جوائز قيمة، وكان عدد المتسابقين تسعة فرسان، ولم يصل من المتسابقين في النهاية غير أربعة فرسان بعد أن قطعوا (1665 كيلومترا) في 13 يوماً و16 ساعة، والمفارقة التي حصلت أن الفارس الذي كان متقدماً على الجميع بمسافة بعيدة واسمه (جيمس ستفنس)، وقبل أن يصل إلى النهاية بساعة ونصف الساعة تقريباً، أراد من شدة فرحته أن يحتفل بذلك الفوز على طريقته الخاصة، فما كان منه إلاّ أن يشرب زجاجة كاملة من الخمر، ويسكب في جوف حصانه أربع زجاجات أخرى، وإذا بالحصان تتبدل شخصيته نهائياً بعد أن انتابته موجة سكر شديدة، انطلق بعدها يعدو ويقفز ويرمح وخرج من مساره، واسقط من على ظهره صاحبه الذي اجتاحه الغضب الهائل وجعله يستل مسدسه من جرابه ويطلق على حصانه الجامح السكران عدة رصاصات أردته قتيلاً، فخسر السباق، وفوق ذلك عاقبوه بالسجن عدّة أيام.

أما أغرب وأصعب وأتعس سباق على الإطلاق، فهو سباق بعض البوذيين المتدينين، الذين يقطعون المسافات من بعض أنحاء الصين إلى معبد مقدس في التبت عبر آلاف الكيلومترات، وقد شاهدت ذلك في التلفزيون، حيث أن الواحد منهم يمشي ثلاث خطوات فقط ثم ينبطح على الأرض، ثم ينهض، ثم يخطو وينبطح، وهكذا دواليك، ولكي لا تتمزق بطونهم وصدورهم من الثلوج والحجارة والأشواك يحمونها بطبقات من الجلود السميكة، ويلبسون بأيديهم (قباقب) من الخشب تحمي راحات كفوفهم من الانسلاخ.

وأكثر هؤلاء الحجاج يموتون من شدة العناء قبل أن يصلوا إلى مبتغاهم، والذين يصلون بعد عدة أعوام، يصلون والواحد منهم (جلد على عظم) ويسعل دماً.

هل الإنسان (مهسّتر) يا ترى؟!، أم أن شكله هكذا؟!

[email protected]