«غزو البصرة» يشعل الصراعات بين شيعة العراق

TT

افتراضاً انه قرأ، فهل يمكن ان نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي انزعج مما كتبه روبرت ماكفرلين مستشار الأمن القومي على زمن الرئيس رونالد ريغان في الـ«وول ستريت جورنال» عن مؤتمر شارك فيه رجال دين عراقيون في القاهرة، وهو الرابع، من اجل «المصالحة العراقية»، وأبدى بشكل خاص إعجابه بممثل مقتدى الصدر الشيخ صلاح العبيدي خصوصاً قوله: «كي ينتهي الاحتلال، يجب ان نوقف الصراع الطائفي. لكن عندما تشجع الحكومة على الطائفية فمن الصعب ان نسيطر على الصراع ويزداد الأمر صعوبة عندما يقرر رجال الدين من اجل تبرير أوضاعهم، ان لديهم دعماً خاصاً من الله».

من اجل ان يضيف إلى ألقابه لقب «القائد الأعلى للقوات المسلحة» ومن اجل ان «يقاتل حتى النهاية»، كلفت مغامرة رئيس الوزراء العراقي 400 قتيل وعدداً غير معروف من الجرحى مع تدمير في البصرة والكوت والعمارة وجنوب بغداد، لكنه اعترف انه اخطأ في حساباته عندما ظن ان بمقدوره حصر الهجوم ورد الفعل عليه في البصرة، فإذا برد الفعل على الهجوم يصل بغداد ويطال المنطقة الخضراء، و«يضطر» المالكي إلى طلب الاستعانة بالطائرات الاميركية والجيش البريطاني. وبينما هؤلاء يقاتلون، وقسم من افراد الجيش وقوات الأمن العراقية يستسلم لـ«جيش المهدي»، لم يتوقف المالكي عن استقبال الزوار وتبادل القبل معهم!

عدة أمور وقعت في الأيام التي سبقت «غزو المالكي للبصرة» ومحاولته إشعال حرب شيعية ـ شيعية في العراق. كان تردد انه خلال زيارة احمدي نجاد الى بغداد في بداية الشهر الماضي، التقى سراً ببعض المسؤولين الاميركيين وعرض مساعدة واشنطن في توفير الاستقرار في العراق مقابل ضمانات أمنية لطهران.

في الحادي والعشرين من الشهر الماضي وبمناسبة عيد «النوروز» (رأس السنة الكردية) أعطى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش مقابلتين لإذاعة «صوت اميركا» و«راديو فاردا» الموجهين الى الايرانيين، لم يشر الى اي من تهديداته السابقة، لم يقل في اي منهما ان كل الخيارات ما زالت مطروحة على الطاولة، لم يدع الى تغيير النظام بل قال: «انه نظام ومجتمع ما زالت امامهما طريق طويلة من الإصلاحات» وقال: «هناك فرصة أمام واشنطن وطهران لتسوية خلافاتهما، لكن على النظام الإيراني تغيير خياراته (...) وبالمقابل فإن أميركا سوف تساعد كي تمتلك إيران الطاقة النووية السلمية، فهذا من حق الشعب الإيراني».

من جهتها، كانت طهران غضبت من الخطة الأميركية الأخيرة المعتمدة على سياسة: «فرق تسُد»، إذ تخوفت من جعل العراق محمية أميركية لأنها رأت في «الصحوات السنيّة» سداً في وجه امتداد الحكومة ذات السيطرة الشيعية، وكان انزعاجها كبيراً من ترداد الرئيس بوش ان الميليشيات السنيّة صار عددها 90 ألفا (براتب 300 دولار لكل فرد)، ونجحت طهران في إبلاغ الإدارة الأميركية عبر تقرير كتبه المؤلف الأميركي «سيليغ هاريسون» في الـ«بوسطن غلوب»، «انه ما لم يقلص الجنرال ديفيد بترايوس عدد الميليشيات السنيّة، فإن طهران ستطلق يد الميليشيات الشيعية من جديد، ضد القوات الاميركية». بعد هذا جاء الهجوم الذي شنه المالكي على «جيش المهدي» في البصرة.

المالكي اعتقد بأنه يستطيع ان يكسب من الصراع الايراني ـ الاميركي على العراق، لكنه لم يدر في خلده انه يبقى حجر شطرنج يمكن «كشه»، فالإيرانيون اخترعوا هذه اللعبة، ولم يبرع فيها العراقيون، بل برع فيها الاميركيون والروس.

يعرف المالكي ان حكومته غير كفوءة ويعشش فيها الفساد، وربما اعتقد بأن الفرصة مؤاتية لإثبات كفاءة وشرعية حكومته في مواجهة «جيش المهدي» المتورط، كما غيره من الميليشيات ـ فهذا عمل الميليشيات التقليدي ـ بأعمال سرقة ونهب واغتيالات، فأعطى الصدر فرصة 72 ساعة لتسليم اسلحته، ثم مدد الفترة حتى الثامن من هذا الشهر، التاريخ المفترض ان يُقدم الجنرال بترايوس والسفير الاميركي ريان كروكر شهادتيهما عن الوضع في العراق أمام الكونغرس. لكن إيران التي كانت حثت على الانشقاقات الشيعية على أمل ان يسيطر شيعة «منظمة بدر» الموالون كلياً لها، شعرت بأن الوضع ازداد سوءاً. فالموالون لها ترهلوا فساداً وبالتالي لم يعد باستطاعتها في هذه المرحلة، استعمال الخطر الشيعي للي الذراع الاميركية في العراق، من دون تهديد مصالحها. وهكذا تم استدعاء عضوين من اعضاء البرلمان العراقي هادي العمري من «منظمة بدر» وعلي الأديب نائب رئيس حزب «الدعوة» (حزب رئيس الوزراء العراقي المالكي). وعلى الأثر أصدر الصدر بيانه الذي دعا مقاتليه الى الانسحاب من الشوارع، لكن بعدما تم الاتفاق معه، على ان تتوقف بغداد عن اعتقال الصدريين عشوائياً، ولم يتضمن الاتفاق نزع أسلحة الصدريين، رغم ان المالكي قال انه لن يغادر البصرة الا بعد تحقيق هذا الهدف.

هذه التفاصيل لا تعني ان الولايات المتحدة غير متورطة في جريمة البصرة. رغم أن الرئيس بوش قال كمن يريد ان يغسل يديه من دماء الذين سقطوا: «لقد كان القرار قرار المالكي. كانت خطته العسكرية، هو من نقل القوات من النقطة «ألف» الى النقطة «ب».

لكن ما تجدر ملاحظته، ان معركة المالكي للبصرة، جاءت بعد أسبوع واحد من الزيارة المفاجئة التي قام بها نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني الى بغداد، حيث تركزت المحادثات على انتخابات مجالس المحافظات المقررة في شهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، وعلى مستقبل صناعة النفط العراقية، وعلى بقاء القوات الاميركية في العراق.

المثير للسخرية ان الرئيس بوش اعتبر ان المالكي يمارس حكم القانون ضد عصابات وميليشيات وخارجين على القانون، لكن الواقع ان المالكي لم يشن هجوماً على «كل الميليشيات» التي تنطبق عليها الصفات التي اطلقها الرئيس بوش، بل على «جيش المهدي» فقط.

ان الاصرار على القضاء على الصدريين لا ينطلق من رغبة المالكي في الدفاع عن حقوق الإنسان في البصرة وبالذات عن حقوق المرأة، بل لحسابات انتخابية، فالذين يسيطرون على السلطة بمعيته لا يتمتعون بأي دعم شيعي. وهذا ما اثبتته المعارك الاخيرة، لذلك خاف المالكي من ان يكتسح الصدريون كل مقاعد مجالس المحافظات الجنوبية، (ان معركة الفلوجة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 التي راح ضحيتها آلاف المدنيين وقعت اثناء التحضيرات للانتخابات التي جرت بعدها بثلاثة اشهر). ثم ان عبد العزيز الحكيم (منظمة بدر) اول من دعا الى منح الجنوب الشيعي حكماً ذاتياً، وذلك من اجل السيطرة على النفط الذي يشكل 60% من الاحتياطي العراقي، وقد رفض الصدريون الفكرة مفضلين حكومة مركزية فيدرالية. ولتحقيق اهدافه يجب على عبد العزيز الحكيم الاطاحة بالصدريين والقضاء عليهم وعلى ميليشيات اخرى ومنعهم من التحكم بالبصرة ومحيطها.

والمالكي، بغض النظر عمن شجعه على ذلك، حتى لو كان السبب جعل نفسه «ديكتاتوراً» حقيقياً، بهذه المغامرة قد يواجه رفضاً من اغلبية الشيعة في العراق شبيهاً بما تواجهه «القاعدة» من مطاردة في المناطق السنية.

ويبقى الأكثر مدعاة للحيرة الموقف الاميركي، فمنذ أن اعلن مقتدى الصدر وقفاً للنار في آب (اغسطس) الماضي والاميركيون يستعملون مقاتلي «منظمة بدر» لشن غارات على المهديين. وهذه المنظمة هي الاكثر التصاقاً بايران. وكان عبد العزيز الحكيم قد دعا ضابطين من الحرس الثوري الإيراني في كانون الأول (ديسمبر) 2006 إلى زيارة بغداد للتباحث في المساعدات العسكرية لمنظمة بدر. وقد تم اعتقالهما في منزل قائد المنظمة هادي العامري. والأطرف ان الرئيس بوش منذ ذلك الحين، وللتدليل على التدخل الإيراني في العراق، يشير إلى اعتقال هذين الضابطين.

من كسب ومن خسر في معركة المالكي؟

بعد هذه المعركة سيصبح المالكي اكثر اعتماداً على «منظمة بدر» وعلى وجودها المتغلغل في قوى الأمن. وصار اكثر في قبضة إيران التي ستنتظر منه ومن الحكيم، كما فعلت في الصيف الماضي عندما اعلن مقتدى الصدر وقفاً للنار، ان يصرا كي تعترف الولايات المتحدة بـ«فضل» ايران التي ضغطت على مقتدى الصدر ليعلن من جديد وقفاً لاطلاق النار. ومن المحتمل ان توافق واشنطن على ذلك، كي لا يتمرد الصدر من جديد ويؤكد ان خطة بترايوس الأخيرة فشلت.

ان شر البلية ما يضحك في الخطط العسكرية الاميركية، فالمالكي والحكيم مرجعهما ايران وليس العراق، والقيادة العسكرية الاميركية في العراق تعتمد شيعياً على التعاون المطلق مع هذين الفريقين المواليين لايران! لكن هذه المعادلة لن تغلق الدائرة.

في نقدها للعملية العسكرية الفاشلة التي شنها المالكي، نقلت صحيفة الـ«وول ستريت جورنال» وبتصرف مقولة لنابوليون بونابرت: «إذا أردت ان تأخذ البصرة، خذ البصرة». ان المالكي لم يأخذ البصرة بل رفع نسبة اللااستقرار في العراق، وكون من قاتل شيعة الصدر هم من شيعة المالكي والحكيم، يكون المالكي ساهم بتأليب أفراد العائلة الواحدة ضد بعضهم البعض. واذا كان الرئيس بوش بغزوه العراق فتح القمقم الشيعي، فإن المالكي بغزوه البصرة فتح قمقم الصراعات الشيعية ـ الشيعية، ولا احد يعرف كيف سيتطور الصراع قبل ان تهدأ الأوضاع، هذا إذا هدأت.